فلا وأبى مآب لنأتينها ... وإن كانت بها عرب وروم
فعبأنا أعنتها فجاءت ... عوابس والغبار لها بريم
بذى لجب كأن البيض فيه ... إذا برزت قوانسها النجوم
فراضية المعيشة طلقتها ... أسنتها فتنكح أو تئيم
ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها: مشارف. ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤتة، فالتقى الناس عندها. فتعبى لهم المسلمون فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بنى عذرة يقال له: قطبة بن قتادة وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له: عبابة بن مالك، ويقال: عبادة. ثم التقى الناس فاقتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط فى رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء. قال أحد بنى مرة بن عوف وكان فى تلك الغزوة: والله لكأنى أنظر إليه حين اقتحم عنها ثم عقرها ثم قاتل القوم حتى قتل وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها ... على إذ لا قيتها ضرابها
وكان جعفر أول من عقر فى الإسلام فرسه.
ولما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه ... ما لى أراك تكرهين الجنه
قد طال ما قد كنت مطمئنه ... هل أنت إلا نطفة فى شنه
وقال أيضا:
يا نفس إلا تقتلى تموتى ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلى فعلهما هديت
يعنى صاحبيه زيدا وجعفرا. ثم نزل فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت فى أيامك هذه ما لقيت. فأخذه من يده فانتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة فى ناحية الناس فقال: وأنت فى الدنيا! ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.