رجالا من أمة عريقة في الحرية، ذات عقول ناضجة وفطنة، ولهم حماسة وحميّة، لم تلن قناتهم لحكومة قاهرة، ولا ذلّلت أنفتهم دولة قوية منذ فجر التاريخ، وكانت لهم تجارة واسعة النطاق تصدر فيها، وترد سلعهم وأمتعتهم بين بلاد وبلاد، وكانت مملكة فارس، وبلاد الشام، ومصر، وآسيا الصغرى مضربهم وموارد تجاراتهم، ولاحتكاكهم بالأمم المتمدنة ولقائهم الرجال من مختلف الأمم تفتقت آراؤهم، واتسعت عقولهم، وازدادت تجاربهم. يدلّ على ذلك ما أثر عنهم من الأحكام، وما وصل إلينا من صفحات التاريخ من الأخبار. وكان من هؤلاء من قاد الجيوش، وانتصر بها، فعدّ من أعظم القادة الفاتحين، وكان منهم من ساس البلاد، وحكم الناس، فأحسن الإحسان كلّه في سياسته وحكمه حتى عدّ من أعدل الولاة وأحكم الحكام سياسة وتدبيرا. وهل يسوغ في العقل، أن من أوتي مثل هذا العقل الراجح، والمواهب العظيمة، والرأي الحصيف يخفى عليه شيء من أمر هذا الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو ينخدع به! هؤلاء الرجال هم الذين نقلوا عنه ما شهدوه بأنفسهم، وسمعوه باذانهم، وكانوا يرون الاقتداء به سعادة لهم، والاهتداء بهديه شرفا لهم في الدّنيا، وذخرا لهم في الآخرة، فاقتفوا آثاره، وسلكوا سبيله، واستنوا بسنته، وهذا دليل واضح على أنه الرسول الكامل، وأنّه على الحق، ومما لا يردّه، ولا يجادل فيه إلا مكابر.
إنّ رسول الله محمدا صلّى الله عليه وسلم لم يحاول أن يخفي عن الناس أمرا من أموره، ولا أن يكتمهم حالة من حالاته، لذلك عرفوه كما كان في الواقع، وهو الآن في أذهان عارفيه كما كان في أعين مشاهديه. تقول أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقد عاشرته زوجة مدّة تسع سنين: لا تصدّقوا من يزعم أنّ محمّدا رسول الله قد كتم ممّا أوحي إليه، فلم يبده للنّاس؛ إذ يقول الله تعالى: * يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة: ٦٧]«١» .
إن من طباع الناس- ولا سيما من يقوم لهم بالإصلاح والهداية