أليست سور القرآن الحكيم، وأسفار التوراة والإنجيل ملأى بالقصص، مسجلة بأنّ كلّ أمّة آمنت وعملت صالحا، وعدلت في الحكم وجاءت بالحسنة قد أفلحت، ونجت، وسعدت، وكلّ أمة ظلمت، وكفرت بأنعم الله، وركبت هواها، وعدت طورها، وتعدّت الحدود الفطرية قد هلكت، وانقرضت دولتها، وتقوّض صرح مجدها. إنّ في بعض آيات كتاب الله قصة لمؤمن عادل صالح، وفي البعض الآخر منها قصة لظالم طاغ: كلّ ذلك ليرتدع الطّاغية عن طغيانه، ويكفّ الفاسق عن الفسق، وينتهي الظالم عن الظلم والبغي، فيعودوا جميعا إلى الرشد، ويكونوا عادلين مؤمنين صالحين.
لأجل ذلك بعث الله الأنبياء والرسل- قبل محمد صلّى الله عليه وسلم- إلى كلّ بلد، بل إلى كلّ قرية، ليكونوا بسيرتهم الصالحة المستقيمة أسوة لأممهم، فتتبع الشعوب التي بعثوا إليها السنن التي يسنونها لأفرادهم وجماعاتهم، فيستقيموا، ويفلحوا جميعا، أو تهتدي بهدي الأنبياء والرسل طوائف من قومهم على الأقل، فيواصلوا الدّعوة، ويسيروا في طريق الحقّ. وقد بعث الله إلى الإنسانية خاتم رسله محمدا صلّى الله عليه وسلم بشيرا للناس كافة ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه، ورحمة للعالمين، لتكون لهم فيه أسوة، ويكون لهم من حياته الشريفة قدوة، ثم يكون مثلا أعلى للذين يأتون بعده إلى أن تقوم الساعة. وقد جاء في القرآن الكريم على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلم: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس: ١٦] ، وذلك أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم ولد فيهم، وترعرع بينهم، ونشأ أمام أعينهم، وعاش بين ظهرانيهم برهة من الدّهر قبل بعثته، فعرفوا أخلاقه كل المعرفة، وجرّبوا عاداته وأعماله، فهو لم يكن فيهم غريبا، ولا خاملا، ولا مجهول الأحوال. والوحي الإلهي في هذه الآية يقدّم حياة الرسول وسيرته الطاهرة قبل البعثة دليلا على نبوّته صلّى الله عليه وسلم وأنّ رسالته هي من عند الله العظيم؛ ليؤمن به العرب، ويصدّقوه فيما يخبر به، أو يدعو إليه، فإنّهم قد علموا مصبحه وممساه، واختبروا أخلاقه وعاداته من صباه ونعومة أظافره إلى أن شبّ واكتهل، وأعلن نبوّته، وخرج إلى الناس يدعوهم برسالة الإسلام.