بحذافيرها وما تفرّق منها في سيرة نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وسليمان، وداود، وأيوب، ويونس، ويوسف، ويعقوب عليهم الصلاة والسلام، فكأنّ السيرة المحمدية بحر لجيّ تنصبّ فيه جميع الأنهار، وتتصل به كل البحار من سير الأنبياء والرسل، وهداهم، وسننهم.
روى الخطيب البغدادي «١» في تاريخه بإسناد ليّن: أن نداء سمع عند مولد النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن طوفوا بمحمد جميع البلاد، واغطسوه في قعر البحار ليعرف العالم كلّه، ثم اذهبوا به إلى جميع الإنس، والطير، والحيوان، وأعطوه من خلق آدم، ومعرفة شيث، وشجاعة نوح، وخلّة إبراهيم، ولسان إسماعيل، ورضا إسحاق، وبلاغة صالح، وحكمة لوط، وشدّة موسى، وصبر أيوب، وطاعة يونس، وجهاد يوشع، ولحن داود، وحب دانيال، ووقار إلياس، وعفّة يحيى وزهد عيسى، واغمسوه في بحر أخلاق الرّسل كلّهم.
والعلماء الذين رووا هذه الرواية في كتبهم أرادوا بها أن يعربوا عن حقيقة سيرة الرسول، وأنّها كاملة جامعة، وأنّ ما أعطي الرسل جميعا متفرقين قد أوتيه محمد صلّى الله عليه وسلم وحده، وأن ما تفرّق من مكارم الأخلاق في الرّسل قد اجتمع فيه صلّى الله عليه وسلم.
مقارنات بين النبي صلّى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء:
تأمّلوا سيرة محمّد صلّى الله عليه وسلم؛ تجدوا فيها كلّ ما كانت به حياته المثالية كاملة.
أليس الرسول المكيّ الذي خرج من بلده مهاجرا إلى يثرب يشبه الرسول الإسرائيليّ الذي خرج من مصر يريد مدين؟ أليس الذي انزوى في غار حراء يعبد ربه كالذي قصد جبل سيناء ليناجي ربّه؟ إن هذا يشبه ذلك مع فارق بينهما، وهو أنّ عيني محمد كانتا مفتوحتين وعيني موسى كانتا مغمضتين،
(١) هو أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، المعروف بالخطيب، أحد الحفاظ المؤرخين المقدمين، كان فصيح اللهجة، ولوعا بالمطالعة والتأليف، توفي سنة ٤٦٣ هـ، ومن أشهر كتبه «تاريخ بغداد» و «الكفاية في علم الرواية» .