القصوى من الحقّ. أما الذين يزعمون أنّ ملاك أديانهم، وقوام نحلهم العفو واللين فحسب، وليس في سيرة رسلهم إلا المسامحة وخفض الجناح، فأنبئوني- بفضلكم- كم يوما عمل أتباعهم بهذه السيرة في مجتمعهم، وإلى متى استمرّوا على هذا الهدي في حياتهم الاجتماعية بين زمن قسطنطين أول الملوك المسيحيين إلى يومنا هذا، وأيّ ملك مسيحي عمل في دولته بسيرة نبيه؟
لقد قامت للأمّة المسيحية دول كثيرة في بقاع الأرض، فخبروني أيّ دولة مسيحية سنّت لرعيتها قوانين تلائم سيرة رسولها من العفو عن الجناة، واللين لمن أغلظ، وخفض الجناح لمن اشتدّ؟ وإذا لم تكن في سيرة رسول من رسل الله أسوة لأتباع ذلك الرّسول أنفسهم؛ فكيف يكون حالها؟!
ما أعطى الله الرسل جميعا متفرقين قد أوتيه محمد صلّى الله عليه وسلم وحده:
وإذا رجعت إلى حياة نوح ترى الغيظ، والحنق على الكفر وأهله، وعلى الشرك ومن يدين به. وترى في حياة إبراهيم جهادا في تحطيم الأصنام، وإبطال عبادة الأوثان. وفي حياة موسى قتالا للمشركين بالله، وقد سنّ للمؤمنين به سننا اجتماعية، وقوانين ملكية. وترى المسيح عيسى ابن مريم يعفو، ويصفح، ويلين للناس، ويخفض لهم جناحه، فتمتلىء نفسك إعجابا بعفوه وعفته. وأما سليمان عليه السلام فيعجبك بجلالته، وسلطانه، وأبهة ملكه. وتمثل لك حياة أيوب معاني الصّبر على المكاره، وشكر الله على الرغائب. ويملؤك يونس إعجابا بإنابته إلى الله، وندمه على ما فرط منه. ويوسف عليه السلام يهديك كيف يقوم الإنسان بدعوة الحقّ وهو أسير عان، وكيف يصون نفسه، ويستمسك بعفافه حين تراوده امرأة ذات جمال، وجلال، ومال، وعظمة. وفي حياة داود درس عظمة، وصحيفة عبرة؛ إذ يبكي من خشية الله، ويحمده، ويدعوه متضرعا إليه. وفي سيرة يعقوب أسوة للمرء فيما يرجوه من رحمة الله، والثقة به، والتوكل عليه عند ما تظلم الدنيا في عينيه. أما سيرة محمد صلّى الله عليه وسلم فإنّها تجمع ذلك كلّه، وتشتمل على جميع هذه الخصال، وتعمّ الأخلاق الكريمة