وفي الجملة: إنّ كلّ ما ذكرته آنفا ليس من الإطراء في الثناء ولا من المبالغة في المدح، بل هو من حقائق الواقع التي سجّلها التاريخ بأصحّ ما استطاع أن يسجّل به حقائقه. ومما لا ريب فيه أنه لا يستحق إنسان أن يكون قدوة للعالم في جميع مناهج الحياة إلا إذا اجتمعت فيه الخلال الشريفة كلّها، والخصال الإنسانية الكاملة بأجمعها ممّا يحتاج إليه الناس في معايشهم، فتكون لهم في سيرته أمثلة كثيرة، وفي هديه أمور متنوعة، تستنير بها كلّ طائفة من طوائف الناس، وكلّ فرقة في كلّ أمّة من أممهم، فيتخذون في أنفسهم سننا، وآدابا، ومناهج من حياته الشريفة لحياتهم الاجتماعية والعائلية، وبذلك يكون الشخص العظيم المقتدى به هاديا للناس بأعماله، وأخلاقه، وخصاله عند ما يكون في حالات الغضب، أو الرحمة، أو الجود، أو الفاقة، أو الشجاعة، أو رقّة القلب، فيهتدون به في هذه الأحوال بدنياهم كما يهتدون به بصحة الاعتقاد وسلامة العبادة لآخرتهم. فهو يجمع إلى إسعاد الناس في آخرتهم إسعادهم في حياتهم الدّنيا وأحداثها اليومية، فييسر لهم خلافة الله على الأرض كما يدلّهم على مقام الكرامة في ملكوت السّماء. وهو مع ذلك يسنّ لهم السّنن، ويشرّع لهم الأحكام لينظموا حياتهم في الأرض والسماء. وإن العفو، والمسامحة، واللين، وخفض الجناح للآخرين من قوام الحياة الإنسانية، ولا يسعد الإنسان إلا بلين القول، والعفو عن الناس، وخفض الجناح لهم، ومن كان نصيبه وافرا من هذه الخصال كان المعلم العظيم، والمحسن الكبير، وإني أسائلكم فأجيبوني: هل هذه الخصال وحدها هي التي تكون في الإنسان، أم تكون في أضدادها أيضا؟ أليس في خصال الإنسان الغضب بجانب ما فيه من رحمة، والعداوة بجانب الصداقة والخلّة، والطّمع مع القناعة، والشّره مع العفّة. أليس ينزع إلى الثأر كما يميل إلى العفو، أليس هذا كله مما تقتضيه جبلّة الإنسان وغريزته؟ إنّ المعلم الكامل هو الذين يستطيع أن يعتدل بين هذه الأحوال والخصال المتضادّة، ويقيم الميزان في هذه النزعات والعواطف حتى يكسر سورتها، ويخفف من شدّتها، ويكون عادلا معتدلا، فتكون له من سجاياه الطيبة مطية كريمة تبلغ به الغاية