هاتين الجملتين معطوفة على الآخرى فإنهما مربوطتان ربط العلّة بالمعلول، فالثانية علّة للأولى، فأجر الرسول لا ينقطع وثوابه من الله لا ينفد؛ إذ الرسول ذو خلق عظيم، وأعماله وأخلاقه بلغت من العلو والسّمو المبلغ الذي لا ينقطع معه أجر صاحبها، ولا يقلّ ثوابه؛ لأنّ معين خلقه فياض لا ينضب، ونبع حسناته فوار لا يغيض، وقد حقّ للنّبيّ الأميّ العربي أن يؤنب الناس بقول الله سبحانه لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: ٢] .
مقارنة بين نتائج عظة جبل الزّيتون، ودعوة جبل الصّفا:
ادرسوا سيرة الواعظ العظيم عيسى ابن مريم عليه السلام، وصعوده جبل الزيتون؛ ليعظ الناس، وقارنوا ذلك بسيرة الدّاعي الهادي محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصعوده جبل الصفا يدعو أمته، فإن رأيتم أحدهما لم يقدر له العمل بما قال للناس ولم يتمّ ذلك له؛ فإنكم سترون سيرة الآخر عامرة بكلّ ما أمر به الناس، وحثّهم عليه. فالذي يعفو ويصفح مع المقدرة يعدّ حليما حقا، وغفورا صدقا، ويكون عمله هذا من أمثل أخلاق البشر، وأفضلها، أما الذي يسكت عن غيظ لضعف وعجز فلا يعدّ سكوته عفوا، ولا حلما؛ لأنّ العفو ينبغي أن يكون مع القدرة، والذي لا يقتل أحدا، ولا يسيء إلى الغير، ولا يضرب إنسانا، ولا يسلب مالا، ولا ينهب متاعا، ولا يا بني لنفسه بيتا، ولا يدّخر أموالا تعدّ فضائله هذه سلبية، أما إذا كان ينقذ المظلوم من القتل ظلما، وينصر الضعيف، ويدفع عن أموال الناس أيدي السّلب والنّهب، ويؤوي الذين لا بيت لهم، ويتصدّق بالمال على المحتاجين إليه، فإنّ فضائله تعدّ إيجابية، وتسمّى أعمالا صالحة، والدّنيا تحتاج إلى هذه الفضائل الإيجابية، والقرآن يذيع عن النّبيّ الكريم أنه رؤوف رقيق القلب فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: ١٥٩] وهذه أكبر شهادة على رقة قلب الرسول ورأفته ورحمته، ومن زعم أنّها دعوى؛ فإنه يرى الدلائل السّاطعة تدعمها، والبراهين الواضحة تؤيدها، ولو لم يكن الرسول صلّى الله عليه وسلم لينا، دمث الأخلاق، عفوا، حليما؛ لتفرقت عنه هذه الجماهير من العرب الذين