للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

القرآن ببيان واضح، وأسلوب متين رائق، ومن ذلك تعلمون أنّه لم تتطرّق أذن التاريخ سيرة رجل بأحسن، ولا أصحّ، ولا أوثق من سيرة محمّد صلّى الله عليه وسلم.

والمصدر الثاني من مصادر السيرة النبوية «١» : كتب الحديث

، وهي كتب حفظت لنا من أقوال النبي صلّى الله عليه وسلم، وأفعاله، وأحواله ما يبلغ مئة ألف حديث، وقد امتاز الصحيح منها عن الضعيف والموضوع، والقوي منها عن غير القوي. ومن الكتب المصنفة في الحديث الكتب الستة الصحاح التي محّص العلماء كلّ ما ورد فيها، وذكروا شواهده، ومتابعاته، حتى لم


(١) تأتي كتابة السيرة النبوية- من حيث الترتيب الزمني- في الدرجة الثانية بالنسبة لكتابة السنة النبوية، فلا جرم أن كتابة السنة- أي الحديث النبوي كانت أسبق من كتابة السيرة النبوية عموما، إذا السنة بدأت كتابتها كما هو معلوم، في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم بإذن بل بأمر منه عليه الصلاة والسلام، وذلك بعد أن اطمأن إلى أن أصحابه قد تنبهوا للفارق الكبير بين أسلوبي القرآن المعجز والحديث النبوي البليغ، فلن يقعوا في لبس بينهما. أما كتابة حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومغازيه بصورة عامّة فقد جاء ذلك متأخرا عن البدء بكتابة السنة، وإن كان الصحابة يهتمون بنقل سيرته ومغازيه شفاها. ولعلّ أول من اهتم بكتابة السيرة النبوية عموما، هو عروة بن الزبير المتوفى ٩٢ هـ ثم أبان بن عثمان المتوفى ١٠٥ هـ، ثم وهب بن منبه المتوفى ١١٠ هـ ثم شرحبيل بن سعد المتوفى سنة ١٢٣ هـ، ثم ابن شهاب الزّهري المتوفى ١٢٤ هـ. إنّ هؤلاء يعدّون، ولا ريب، في مقدمة من اهتموا بكتابة السيرة النبوية، غير أن جميع ما كتبه هؤلاء قد باد وتلف مع الزمن، فلم يصل إلينا منه شيء، ولم يبق منه إلا بقايا متناثرة، روى بعضها الطبري، ويقال: إنّ بعضها الآخر- وهو جزء مما كتبه وهب بن منبه- محفوظ في مدينة هايدلبرج بألمانيا. ولكن جاء في الطبقة التي تلي هؤلاء من تلقّف كلّ ما كتبوه، فأثبتوا جلّه في مدوناتهم التي وصل إلينا معظمها بحمد الله وتوفيقه، ولقد كان في مقدمة هذه الطبقة محمد بن إسحاق المتوفى عام ١٥٢ هـ، وقد اتفق الباحثون على أن ما كتبه محمد بن إسحاق يعدّ من أوثق ما كتب في السيرة النبوية في ذلك العهد ولئن لم يصل إلينا كتابه «المغازي» بذاته، إلا أن أبا محمد عبد الملك المعروف بابن هشام قد جاء من بعده، فروى لنا كتابه هذا مهذبا منقحا، ولم يكن قد مضى على تأليف ابن إسحاق له أكثر من خمسين سنة (فقه السيرة النبوية، للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي مع اختصار، ص ٢٢٦) .

<<  <   >  >>