هذا من جهة أصحابه، وأما أعداؤه؛ فإنهم أفرغوا جهدهم، واستنفذوا سعيهم؛ ليقفوا على دخيلة من دخائله، وليؤاخذوه بحقيقة يعلمونها عنه، فلم يستطع أحد منهم أن يجد له ناحية ضعف، ولا ما يندّد به. وأقصى ما استطاع أعداؤه في كل زمان ومكان أن يقولوه عنه: إنه سلّ سيفه للقتال، وإنّه كان كثير الأزواج، وقد تبين لكم مما سلف أنّ حياته الطاهرة التي فصّلنا حقيقتها تفصيلا، وأحطنا بجوانبها علما، هي حياة العصمة من كلّ نقص، البريئة من كلّ عيب، فأين هذا من حياة لا نعلم عنها شيئا، ولا تزال نواحيها ووجوها سرّا في ضمير الزّمن؟!
كان الرسول صلّى الله عليه وسلم معروف الدخائل لأعدائه أيضا فلم ينقلوا عنه إلا خيرا:
إخواني! أريد أن ألفت أنظاركم إلى أمر آخر: إنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يقض حياته كلّها بين أحبابه وأصحابه، بل قضى أربعين سنة من عمره في مكة قبل أن يبعث، فكان بين أهلها مشركي قريش، وكان يتعاطى فيهم التجارة، ويعاملهم في أمور الحياة ليل نهار، وهي الحياة اليومية، وما تنطوي عليه من أخذ وعطاء، ومن شأنها أن تكشف عن أخلاق المرء، فيتبين للناس فسادها وصلاحها، وهي عيشة طويل طريقها، كثيرة منعطفاتها، وعرة مسالكها، تعترضها وهدات مما قد يصدر عن المرء من خيانة، وإخفار عهد، وأكل مال بالباطل، وعقبات من الخديعة والخيانة، وتطفيف الكيل، وبخس الحقوق وإخلاف الوعد. وإنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم اجتاز هذه السبيل الشائكة الوعرة، وخلص منها سالما نقيا، لم يصبه شيء مما يصيب عامّة الناس، حتى لقد دعوه «الأمين» . وإنّ قريشا بعد بعثته وادّعائه النّبوّة كانوا يودعون عنده ودائعهم، وأموالهم لعظيم ثقتهم به، وقد علمتم أنّه صلّى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة خلّف فيها عليّا ليردّ ما كان لديه من الودائع إلى أهلها. فقريش خالفوه أشدّ الخلاف في دعوته، ولم يتركوا سبيلا إلى ذلك إلا سلكوه، فقاطعوه، وعاندوه، وصدّوا عن سبيله، وألقوا عليه سلى جزور وهو يصلّي، ورموه بالحجارة، وأرادوا قتله، وكادوا له كيدهم، وسمّوه ساحرا، ودعوه شاعرا، وفنّدوا آراءه، وسخّفوا حلمه، ولكن لم يجرؤ أحد منهم على أن يقول شيئا في أخلاقه، ولا أن يرميه بالخيانة، أو ينسب