للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إليه الكذب في القول، أو إخلاف الوعد، أو إخفار الذمّة، أو نقض العهد. وإنّ من ادّعى النبوّة، وقال: إن الله يوحي إليه؛ فكأنه ادّعى العصمة والبراءة من جميع المفاسد، ومساوىء الأعمال. ألم يكن يكفي قريشا في ردّهم على الرسول أن يذكروا أمورا عمل فيها الرسول بغير الحقّ، وأن يشهدوا عليه بأن أخلفهم وعدا، أو خانهم في أموالهم، أو كذبهم في شيء مما قاله لهم؟ إنّ قريشا أنفقوا أموالهم، وبذلوا نفوسهم في عداوة الرسول، وضحوا بفلذات أكبادهم في قتاله حتى قتل منهم وجرح كثيرون، لكنّهم لم يستطيعوا أن يدنسوا ذيله الطّاهر، ولا أن يصموه بشيء في عظيم أخلاقه.

وكانت أحوال الرسول وشؤونه وهديه ظاهرة لجميع الناس، معلومة لهم، استوى في ذلك أحبابه وأعداؤه، ولم يخف عليهم شيء من أمره.

كان عظاماء قريش مجتمعين ذات يوم في ناديهم، فجرى ذكر الرسول صلّى الله عليه وسلم، وفيهم النضر بن الحارث «١» وكان رجلا داهية محنّكا، وعالما بالأخبار، فقال لهم: يا معشر قريش! لقد أعياكم أمر محمد، وعجزتم عن أن تدبروا فيه رأيا لما أصابكم به. إنّ محمدا قد نشأ فيكم حتى بلغ مبلغ الرجال، وكان أحبّ الناس إليكم، وأصدقهم فيكم، واتخذتموه أمينا، فلما وخطه الشيب، وعرض عليكم هذا الأمر قلتم ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون. تالله لقد سمعت كلامه فليس فيه شيء مما ذكرتم!

وأبو جهل كان أشدّ الناس عداوة للرسول، وقد قال له ذات يوم:

يا محمد إنّي لا أقول: إنّك كاذب، لكني أجحد الذي جئت به، وما تدعو إليه. فأنزل الله هذه الآية: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: ٣٣] «٢» .


(١) هو النضر بن الحارث بن علقمة، كان من شجعان قريش ووجوهها، وهو ابن خالة الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولما ظهر الإسلام استمرّ على عقيدة الجاهلية، وآذاه كثيرا، شهد «بدرا» مع مشركي قريش، فأسره المسلمون، وقتلوه.
(٢) قال السدي: التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام، فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا من يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: والله إنّ محمدا لصادق، وما كذب محمّد قط، -

<<  <   >  >>