سائر المخلوقات، وهي مسألة ترجع إلى أمر التوحيد، فالإنسان قبل الإسلام كان يرى نفسه أحطّ منزلة من معظم المخلوقات والموجودات، كان يهاب كلّ ما عظمت جثته، ويطأطىء رأسه لكل ما يبدو له أسود حالكا، أو أبيض لا معا، ولكل ذي لبن سائغ، أو لعاب قاتل، وبلغ خوفه من مظاهر الطبيعة ومن المخلوقات الضّارّة، ورجاؤه من الأشياء التي يرتقب نفعها، أن صار يعبد الحجارة الصمّ والجبال الشّمّ، والبحار الزاخرة، والأنهار الجارية، والأشجار الخضراء، والأمطار الهاطلة، والنيران الملتهبة، والصحارى المخيفة، والأفاعي السّامة، والأسود الزائرة، والبقر الحلوب، والشمس البازغة، والنّجوم الزاهرة، والليالي المظلمة، والأشباح المهيبة، وفي الجملة كان يعبد من المخلوقات كلّ ما يخشى شره، أو يرجو خيره؛ اتقاء لضرره، أو طمعا في خيراته، فلما بعث محمد برسالة الله؛ أعلن لجميع البشر بأنّ هذه المخلوقات كلّها إنما خلقت لهم، ولم يخلقوا لها، وأنّها مسخرة لهم، فلا يليق بهم أن يسجدوا لشيء منها. وقال لهم: أيها الناس، أنتم خلفاء الله في هذا العالم، وقد سخر لكم كلّ ما فيه جميعا، إنّ الدنيا لكم، ولستم لها وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: ٣٠] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام: ١٦٥] .
ولأجل استخلاف بني آدم في الأرض سمت منزلتهم بين جميع المخلوقات، وشرّفهم الله وكرّمهم* وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء:
٧٠] فهل يجوز لخليفة الله في الأرض وقد كرمه الله أن يسجد لمن هو دونه، ويعبد ما هو أصغر منه شأنا؟ وكيف يسجد بنو آدم لشيء غير الله والعالم مسخر من الله لهم أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ [الحج: ٦٥] . هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: ٢٩] وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ [النحل: ٥] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [النحل: ١٠- ١١] . فلبني آدم الأرض وما فيها من الشجر، والخضر، ومن الثمر، والزهر، وغيرها من المنافع