تقضي إلى الإشراك بالله، منذ نادى رسول الإسلام صلّى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] ثم نزلت سورة من قصار سور القرآن محت الأوهام الباطلة كلّها، والعقائد الفاسدة التي نسجها الناس حول وجود الله، وهي قول الله عز وجل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: ١- ٤] فكان الإسلام بذلك طاهرا من دنس الشرك، نقيّا من كلّ شوائبه.
إخواني وخلاني! إيّاكم أن تظنّوا أنّ الرسالة المحمدية نفت شيئا ممّا لله عز وجل من عظيم الرأفة، وواسع الرحمة بعباده، أو أبطلت ما لله في عباده من حنان، إنّها لم تفعل ذلك، بل وثقت حبل الله الذي يسّره لعباده وزادته قوة. وإنما أبطلت ما زاد على ذلك من أوهام تفضي إلى تجسيم الله، أو تمثيله بشيء من خلقه، ومحت وسائل كاذبة تجرّ إلى الإشراك بالله ممّا اتخذته الأمم السالفة، فضلّت به، وأضلّت، وفيما عدا ذلك فإنّ الإسلام أشاد بما بين الله وعباده من رابطة هي أشدّ، وأقوى من كلّ ما يمتّ به المخلوقون بعضهم إلى بعض من نسب، ورحم، وآصرة، ودم، فالإنسان الذي يعيش في طاعة الله أقرب إلى الله من قرابة الولد لوالده، وقرابة الزوجة من زوجها.
انظروا كيف أراد الله أن يعلّم الصالحين من عباده بأنه يحبّهم كما يحبّ الأب أولاده، فأمرهم أن يذكروه كما يذكرون آباءهم، أو أشدّ ذكرا. فهو عز وجل لم يشبه نفسه بالأب، لكنّه شبه حبّه بحبّ الأب، واجتنب ما يدلّ على القرابة الواشجة، والرّحم الماسّة، فأبقى من هذه العلاقة ما يدلّ على الحبّ، ثم زاد الحثّ على أن يذكروه أشدّ، وأكثر مما يذكرون آباءهم بقوله أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة: ٢٠٠] لأنّ الصلة بين العبد وخالقه أشدّ، وأسمى من جميع ما يمتّ به المرء إلى أحد من ذوي قرابته، فقال تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: ١٦٥] ، والإسلام لا يسمّي الله أبا للناس، بل يدعوه «رب العالمين» لأنّ الربّ أعلى مكانا من الأب، وإنّ الصّلة بين الابن وأبيه عارض يفنى، والصّلة بين المربوب وربه أثبت وأبقى؛ لأنها مستمرة من أول نشأة المخلوق إلى أن تنتهي حياته بلا انقطاع،