للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعن هذه العقيدة نشأ التبتل «١» عند الهنادك، والرّهبانية عند النّصارى، وابتدعوا من رياضات الجسم أنواعا عجيبة أشدّها على الجسم أفضلها عندهم، وأقربها إلى الله في زعمهم؛ فمنهم من آلى على نفسه ألا يغتسل طول حياته، ومنهم من لا يلبس إلا المسوح والثياب الخشنة، وبعضهم آلى على نفسه أن يعيش عريان إلا من خرقة يستتر بها، ماضيا على ذلك مهما أثرت فيه حمارّة القيظ، أو زمهرير الشتاء، ومنهم من لزم كهفا فلا يبرحه أبدا، وبعضهم اختار لنفسه أن يبقى واقفا في حرّ الشمس طول حياته، ومنهم من يحلف ألا يقتات إلا بورق الشجر، ومنهم من بقي صارورة «٢» حصورا لا يتزوج، ومنهم من يعدّ من العبادة والقربة إلى الله منع التناسل، وفيهم من يرفع إحدى يديه في الهواء، ويبقى كذلك طول عمره حتى تيبس يده وتجف، وكان بعضهم يحبس نفسه ما استطاع، وهو يحسب أن ذلك من العبادة، ولا يزال في الهند من يتعلّق بشجرة منكسا رأسه إلى تحت. وهذا كلّه وأمثاله مما كان عليه أتباع الأديان قبل مبعث محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ظانّين أنّ أعمالهم هذه من أقرب الوسائل إلى الله، ومن أفضل ما تزكى به النفوس وتطهر به الأرواح، فأنقذ الله عز وجل الإنسانية من هذا العذاب الأليم والأذى الشديد بالرسالة المحمدية الكاملة، وأرشدهم إلى أنّ ما يحسبونه عبادة من هذا السخف والشرّ إنما هو من الملاهي التي يتعلّل بها من زاغ بصره، والتوى عليه الرأي فظنّ في الله غير الحق، وقد أعلنت الرسالة المحمدية للناس هذه الحقيقة: «إنّ الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» «٣» . وما يفعل الله بتعذيبكم لأجسادكم وجوارحكم. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة:

٢٨٦] وجعل الرهبانية بدعة من عند الناس، لا من عند الله وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ [الحديد: ٢٧] وفي الحديث النبوي «لا صرورة


(١) التبتّل: الانقطاع عن الدنيا إلى الله تعالى، وكذا (التبتيل) ومنه قوله تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [المزمل: ٨] .
(٢) الصّارورة: يقال لمن لم يتزوّج.
(٣) رواه مسلم في كتاب البر (٢٥٦٤) .

<<  <   >  >>