أنفسهم، فأنزلوا طوائفهم منازل مختلفة، وجعلوا بعضهم فوق بعض، وهذه أوربا الرّاقية التي تدّعي دعاوى عريضة في الإخاء، والمساواة، والمدنية، ألسنا نرى أن الرّجل الأبيض قد أثقل كاهله بأعباء الحكم في العالم، ويرى أن غير الأوربي لا يستأهل السيادة والحكم، فالأبيض المثقف هو الذي اختص بالحضارة والاستعلاء، أما السّود- وكل من عداهم يعدونه من السود- فإنّهم لا يعدلونهم، ولا يساوونهم، بل إنّ بعض البيض يربؤون بأنفسهم أن يركبوا في أسفارهم مع الآسيوي في عربة واحدة من القطار، وترفعوا عن مجالسته، ومساكنته، وقد عزلوا الجنس الأسود (Negro) في إفريقية الجنوبية وأمريكا المتحضرة، فبنوا لهم أحياء منعزلة عن البيض؛ لأنهم لا حقّ لهم بأن يجاوروا البيض، فالأمريكيون الذين يدعون العدالة التامة، والإخاء العظيم يعاملون السود من سكان أمريكا نفسها أسوأ معاملة، ويضيقون عليهم حياتهم، كأنّهم ليسوا من البشر، أو من خلق الله، وفي جنوبي إفريقية وشرقيها ليس للسود، ولا للهنود، ولا للآسيويين عامّة من الحقوق المدنية والإنسانية مثل ما للإنسان في بلاد أخرى، ولم يقصروا جورهم هذا على الأمور الدنيوية، بل إنّهم عدوا طورهم، وجاوزوا الحقّ إلى الأمور الدينية، فبنوا الكنائس للبيض خاصّة وجعلوها بمعزل عن السود، فلا يأذنون للسود بدخول تلك الكنائس، وإنّ الأبيض يشمخ بأنفه، ويربأ بنفسه أن يدخل كنيسة يغشاها السود، أو الآسيويون، والإفريقيون، فليس للأسود أن يركع لله مع الغربي الأبيض أبدا.
أمّا الإسلام؛ فقد محا هذه الفوارق والعصبيات الذميمة كلّها، وأنكر أن يكون التفاضل باللون، والدم، والنسب وسوّى بين بني آدم كلهم، وهدم كلّ ما كان يحول بين المرء وأخيه من ثراء المال، ونقاء الدم، ولون البشرة، والجاه العريض، والنسب الأصيل، والمجد الأثيل. وكانت قريش تعتزّ بابائها، وتباهي بأنسابها، فخاطبهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم يوم وقف فيهم خطيبا في فناء المسجد الحرام يوم فتح مكة، فقال لهم: «يا معشر قريش! إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة وتعظمها بالآباء، النّاس من آدم وآدم