للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نسأ في آجالهم، وأطال حياتهم، وأخّر موتهم، حتى تسنّى لكثير من الناس أن يتلقوا عنهم ما حافظوا من أمانات الحديث النّبويّ، ويعوا أقوالهم، وينشروا رواياتهم، ولم يكن العلم يومئذ إلا معرفة هذه الأمور.

وبه ينالون شرف الدّين، وعزّة الدّنيا، فكان الآلاف من الصحابة يبلغون إلى الجيل الذي بعدهم ما رأوه بأعينهم، وسمعوه باذانهم من أحوال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، وأقواله، وتشريعه؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بذلك، فقال:

«بلّغوا عنّي» «١» و «ليبلّغ الشّاهد الغائب» «٢» ، فكانوا يعلمون أولادهم، وإخوانهم، وأصحابهم، وأقرباءهم من الدّين والعلم كلّ ما كانوا يعلمونه، فكان ذلك شغلهم، وهمّهم آناء الليل وأطراف النهار، وفي الغدوّ والآصال، فتعلم النشء الإسلامي الأول حقائق رسالة الإسلام، وتفاصيل حياة الرسول منذ ترعرعوا في بيئاتهم التي كانت ساحات للعلم، ومدارس يتقلّبون في حجرها، وما لبثوا أن قاموا مقام الصحابة، وسدّوا مسدّهم في حفظ هذه الأحاديث، ووعي هذه المرويات، فكان هؤلاء التابعون يحفظونها كلمة كلمة، ويعيدون روايتها بألفاظها دون أن يخرموا منها كلمة. وكما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحرّض الصحابة على أن يبلغوا عنه، ويفقهوا تشريعه، وينشروا دعوته وأحكامه، كان ينهى الناس عن أن يتقولوا عليه ما لم يقل، أو ينسبوا إليه ما لم يفعل، وكان ينذر من يتعمّد الكذب عليه بأنه سيتبوّأ نار جهنم، لذلك كان كبار الصحابة ترتعد فرائصهم وتمتقع وجوههم عند رواية أحاديث الرسول خوفا من أن يكذبوا عليه أو ينحلوه ما لم يقل «٣» . وكان عبد الله بن مسعود إذا قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم» استقلته


(١) عن عبد الله بن عمرو أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «بلّغوا عنّي ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمّدا فليتبوأ مقعده من النّار» رواه البخاري في باب ما ذكر عن بني إسرائيل (٣٤٦١) .
(٢) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب «ليبلغ العلم الشاهد الغائب» (١٠٤ و ١٠٥) ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إثبات الحساب (٢٨٧٦) .
(٣) لذلك نراهم مع كثرة تحملهم عن الرسول صلّى الله عليه وسلم- لا يكثر من الرواية، حتى إنّ منهم من كان لا يحدث حديثا في السنة، ونرى من تأخذه الرعدة، ويقشعر جلده، ويتغيّر لونه-

<<  <   >  >>