زعموه من أنّ تدوين السنّة بدأ بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم بتسعين سنة، وقد ذكرت لكم فيما سلف كيف كان الصحابة والتابعون يعنون بالأحاديث، ويحفظونها، ويحتاطون في روايتها حتى لا يبقى مجال للشكّ في صحتها وصدقها.
والذي دعا الصحابة إلى ألايقيدوا الأحاديث بالكتابة ثلاثة أمور:
أولها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهاهم في بداية الأمر عن أن يكتبوا عنه غير القرآن؛ لكيلا يلتبس القرآن بغيره، فلما حفظ القرآن، فصار معروفا، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ أذن للصحابة بأن يكتبوا ما يسمعون منه، ومع ذلك بقي الصحابة يحتاطون في ذلك احتياطا شديدا، وكان معظمهم يتحرّجون في كتابة الحديث.
وثانيها: أن الصحابة كانوا يخشون أن يعتمد الناس في الحديث على الكتابة، فيقصّرون في حفظها وتدبّرها مرتكنين على أنّها مكتوبة عندهم، ويمكنهم الرجوع إليها عند الحاجة، وقد وقع الذي ظنوه، فإنه كلّما ازداد الاهتمام بالكتابة والتدوين قلّت العناية بالحفظ، وكذلك كان الصحابة يخشون أن يدّعي كلّ من تكون الأحاديث المكتوبة في متناول يده بأنه عالم، وقد وقع ما كانوا يحذرون.
وثالثها: أنّ العرب كانوا يعدون الاعتماد على الكتابة اعترافا بنقص مواهبهم، وضعف حفظهم، وفي ذلك غضّ من شرفهم، فكانوا يعتمدون على حفظهم، وإذا كتبوا شيئا ممّا يحفظون كتموا أمره.
كان المحدّثون يرون أنّ الحفظ في الصدور أصون من التدوين في السّطور؛ لأنّ ما يتناقله الناسخون بالكتابة معرّض للتّحريف، وأما ما يتلقّاه الحافظون الضابطون عن الحافظين الضابطين؛ فإنه لا يتطرّق إليه الخطأ، ولا يصيبه أيّ تحريف.
وإني لأكشف القناع لأول مرة في ناديكم هذا بأن من زعم أنّ الأحاديث النبوية لم تدوّن إلى مئة سنة أو تسعين سنة قد أخطأ، والتاريخ يعارضه، والسبب في هذا الخطأ ظنهم أنّ أول كتاب في الحديث النبوي كتاب الموطأ