للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما القوانين الوضعية فلها شأن آخر إذ تميز بين أفعال القذف التى ارتكبت علنًا وأفعال القذف التى ارتكبت فى غير علانية، وتعاقب على الأولى دون الثانية، فهى تعاقب إذا عاقبت لأن القذف فى الغالب سمعه فريق من الناس، ولا تعاقب فى غير العلانية لأن القذف لم يصل إلى أسماع الكثيرين من الناس.

وهكذا تزن القوانين كرامة الإنسان بميزانين وتجعل له قيمتين، فتحافظ على كرامته وقيمته إذا مست وانتقصت قيمته أمام الناس، وتهدر كرامته وقيمته إذا مست وانتقصت دون أن يشتهر ذلك بين الناس.

وهكذا تفرض القوانين الوضعية على الناس حياة الرياء والنفاق وتصرفهم عن الجوهر وتغريهم وتجعل منهم أشخاصًا لا كرامة لهم ولا عزة فيهم، وتعلمهم أن يستحلوا لأنفسهم ما يشاءون فى الخفاء وأن يتظاهروا بالبراءة والطهارة، وأن لا يغضبوا لكرامتهم ولا يثوروا إذا مست فى الخفاء وأن يتظاهروا بالغضب إذا مست فى علانية.

والمبدأ الذى أخذت به القوانين الوضعية فى العلانية متمم لمبدأ عدم جواز إثبات القذف، وكلاهما أساسه فرض حياة الرياء والنفاق على الناس لأن معنى عدم جواز الإثبات هو أن يعاقب الصادق والكاذب على السواء وأن لا يستطيع إنسان أن يقول الحق ويصف الناس والأشياء وصف حق إلا إذا عرض نفسه للعقاب، فإذا لم يرد أن يكون عرضة للعقاب وجب عليه أن يعيش كاذبًا لا يقول الحق ولا يعرف الصراحة.

ومبدأ الشريعة فى عدم اشتراط العلانية متمم لمبدأ جواز إثبات القذف، كلاهما أساسه فرض الحياة الفاضلة على الجمهور وأخذه بالاستقامة والاعتزاز بالكرامة، وشتان بين توجيه الشريعة وتوجيه القانون، فالشريعة تعاقب على الجريمة لذاتها لا لظروفها، بينما القانون يعاقب على ظروف الجريمة ولا يهتم بذات الجريمة. والشريعة لا تحمى الفاسقين المفسدين من ألسنة الصادقين المصلحين بينما تحمى البرآء الغافلين من ألسنة الكاذبين المدعين. أما القانون فيتكفل بحماية

<<  <  ج: ص:  >  >>