للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه السابق؛ لأن المكره يستطيع أن يختار على أي حال.

والمكره حين يختار ارتكاب الجريمة يلحق الضرر بغيره، وحين يختار الوعيد يلحق الضرر بنفسه، وكلاهما أمر تأباه الشريعة، فهي تحرم على الناس الإضرار بالغير كما تحرم على الناس أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، فالمكره حين يختار إنما يختار بين محرمين أو بين ضررين.

وقد وضعت الشريعة قاعدتين لحكم هذه الحالة: أولهما: أن الضرر لا يزال بالضرر، ومقتضى هذه القاعدة أنه لا يجوز للإنسان أن يدفع الضرر بمثله، فليس له أن يدفع الغرق عن أرضه بإغراق أرض غيره، ولا أن يحفظ ماله بإتلاف مال غيره، وليس للمضطر أن يتناول طعام مضطر آخر، وهكذا.

وثانيتهما: أن أخف الضررين يرتكب لاتقاء أشدهما، ومقتضى هذه القاعدة أنه إذا لم يكن بد من ارتكاب أحد الضررين فيجوز للإنسان أن يرتكب أخفهما لدفع الأشد، ولا يجوز له أن يرتكب أشد الضررين لدفع أخفهما. فتطبيق هاتين القاعدتين يوجب على المكره أن يأتي من الأمرين أمراً واحداً بعينه، فإذا اتاه فهو لا يختار في الواقع وإنما يضطر إلى إتيانه اضطراراً بحكم الإكراه أولاً ونزولاً على حكم الشريعة ثانياً، وإذن فاختياره ينعدم تماماً إذا نزل على حكم قاعدتي الضرر سالفي الذكر، فتنعدم المسئولية الجنائية لانعدام الاختيار وترتفع العقوبة. أما إذا خالف حكم قاعدتي الضرر ودفع الضرر بمثله، أو دفع الضرر الأخف بالأشد، فقد اختار، وهذا الاختيار لا يعدم المسئولية الجنائية ولا يرفع العقوبة ولو كان مداه ضيقاً.

وقد جاءت أحكام الإكراه في الشريعة تطبيقاً دقيقاً لما سبق، فإذا قتل المكره غيره أو قطع طرفه أو ضربه ضرباً مهلكاً فإنما يفعل هذا ليدفع عن نفسه القتل أو ما يؤدي إلى القتل من القطع أو ضرب مهلك، وليس له أن يدفع الضرر بمثله أو بأشد منه، فإذا فعل ذلك فقد اختار وهذا الاختيار على ضيق مداه لا يرفع عنه المسئولية الجنائية فيعاقب على القتل والقطع والضرب المهلك. أما ما عدا هذا

<<  <  ج: ص:  >  >>