والأفعال التي هي مصلحة محضة أو قليلة جداً، وأكثر الأفعال تختلط فيها المصالح والمفاسد، والإنسان بطبعه يؤثر ما رجحت مصلحته على مفسدته، وينفر مما ترجح مفسدته على مصلحته، ولكنه في اختياره ينظر لنفسه لا للجماعة، فيؤثر ما فيه مصلحته ولو أضر بالجماعة، وينفر مما يراه مفسدة عليه ولو كان فيه مصلحة الجماعة. وقد شرعت العقوبات بما فيها من التهديد والوعيد والزجر علاجاً لطبيعة الإنسان، فإن الإنسان إذا نظر إلى مصلحته الخاصة وما يترتب عليها من العقوبات نفر منها بطبعه، لرجحان المفسدة على المصلحة.
وكذلك إذا ما فكر في الواجب وما يجلبه عليه من المشاق، فقد يدعوه ذلك لتركه، لكنه إذا ذكر ما يترتب على الترك من عقوبة حمله ذلك على إتيان الفعل، والصبر على المكروه والمشقة. فالعقوبات مقررة لحمل الناس على ما يكرهون ما دام أنه يحقق مصلحة الجماعة، ولصرفهم عما يشتهون ما دام أنه يؤدي إلى إفساد الجماعة. وهذا مصداق قوله عليه السلام:"حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات".
ومن المسلم به أن هناك أناساً يفعلون الفعل لأنه مأمور به، وينتهون عنه لأنه منهي عنه، لا حذراً من العقوبة، ولا خوفاً من النكال، ولكن حياء وخجلاً أن يكونوا عاصين، ومبادرة للطاعة، وتحقيقاً لمصلحة الجماعة، ولكن أمثال هؤلاء قليلون جداً، والأحكام تشرع للكثرة الغالبة، لا لمثل هذه القلة النادرة.
وخلاصة ما تقدم: أن الشريعة الإسلامية اعتبرت بعض الأفعال جرائم وعاقبت عليها، لحفظ مصالح الجماعة ولصيانة النظام الذي تقوم عليه الجماعة، ولضمان بقاء الجماعة قوية متضامنة متخلقة بالأخلاق الفاضلة، والله الذي شرع هذه الأحكام وأمر بها لا تضره معصية عاص ولو عصاه أهل الأرض جميعاً، ولا تنفعه طاعة مطيع ولو أطاعه أهل الأرض جميعاً، ولكنه كتب على نفسه الرحمة لعباده، ولم يرسل الرسل إلا رحمة للعالمين، لاستنقاذهم من الجهالة،