للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العمد وشبه العمد.

وإذا كان صاحب الإقناع قد صرح باشتراط القصد فإنه مع ذلك لم يذكره فى تعريف العمد واكتفى باشتراط أن تكون الآلة قاتلة غالبًا كما أنه يلاحظ عليه أنه لم يفسر القصد أصلاً فى الحالة التى تكون فيه الآلة غير قاتلة غالبًا وهو منطق دقيق فقد رأى أنه إذا كانت الآلة القاتلة غالبًا دليلاً على توفر قصد القتل، فإنه يجب أن تكون الآلة التى لا تقتل غالبًا دليلاً على انتفاء قصد القتل ما دامت الآلة هى الدليل المادى على قصد الجانى.

وعلى كل حال فإن هذا الذى يراه هو نفس ما يراه بقية الفقهاء ممن ذكرنا وممن لم نذكر ولو أنهم لم يصرحوا بهذا فى تعريف شبه العمد كما صرح صاحب الإقناع، ولكن المتتبع لأمثلتهم وتطبيقاتهم يجد أنهم يعتبرون الفعل شبه عمد إذا كانت الوسيلة غير قاتلة غالبًا، بغض النظر عما إذا كان الجانى قصد القتل أم لم يقصده ولعلهم لم يصرحوا بها فى التعريف كما لم يصرحوا باشتراط القصد فى العمد، ويكون إذن معنى قولهم إن القاتل فى شبه العمد لم يقصد الفعل أنه لم يقصده فرضًا أو حكمًا لا فعلا. ومن الأمثلة على ذلك أن الضربة أو الضربتين بالعصا وضرب الموالاة لا يعتبر قتلاً عمدًا، ولو قصد الجانى قتل المجنى عليه (١) فى رأى أبى حنيفة وأصحابه وأن القتل بطريق معنوى يعتبر قتلاً شبه عمد فى مذهب الشافعى وأحمد لأن الوسيلة لا تقتل غالبًا وأن الضرب بما لا يقتل غالبًا يعتبر قتلاً شبه عمد ولو قصد الجانى قتل المجنى عليه ما دام الضرب لم يكن متواليًا ولا على ضعيف أو صغير أو فى حر شديد أو فى برد شديد (٢) .

ومع أن الفقهاء قد جعلوا استعمال الآلة أو الوسيلة القاتلة غالبًا دليلاً على توفر القصد للقتل عند القاتل، وجعلوا استعمال الآلة أو الوسيلة التى لا تقتل غالبًا دليلاً على انتفاء قصد القتل عند القاتل إلا أنه يجب أن لا يفهم من هذا المساواة التامة فى الحالين، فهناك فرق دقيق لا يصح أن يغرب عن البال، وهو أن افتراض توفر قصد القتل عند من يستعمل آلة تقتل غالبًا هو فرض يقبل النفى فللجانى أن يثبت العكس أى أنه لم يقصد القتل؛ أما افتراض انعدام نية القتل عند من يستعمل آلة لا تقتل غالبًا فهو فرض لا يقبل النفى، فلا يجوز إثبات عكسه ولو اعترف الجانى نفسه بأنه قصد القتل، بل يكذب اعترافه كون الآلة غير قاتلة والملاحظ فى حالة قبول النفى وعدم قبوله هو مصلحة المتهم لا مصلحة غيره، وإن كانت مصلحة الجماعة روعيت فى حالة استعمال آلة تقتل غالبًا بافتراض أن نية القتل متوفرة فلا يجد الاتهام ضرورة لإثبات نية القتل ما دام المتهم لم يثبت أنه لم يقصد القتل، وأنه لم يستعمل الآلة القاتلة لها الغرض.

٩٠ - وليس للبواعث التى دفعت الجانى لارتكاب جريمته أثر ما على مسئوليته ولا عقوبته فى الشريعة: فإذا ارتكب الفعل بقصد الإضرار بالمجنى عليه أو لباعث غير شريف فإن ذلك لا يزيد فى مسئوليته أو عقوبته شيئًا كما أن ارتكاب الفعل لباعث شريف لا يخفف مسئولية الجانى أو عقوبته شيئًا.

٩١ - رضاء المجنى عليه بالقتل: من القواعد الأصلية المسلم بها فى الشريعة أن رضاء المجنى عليه بالجريمة لا يجعلها مباحة إلا إذا كان الرضاء ركنًا من أركان الجريمة كالسرقة مثلاً فإن رضاء المجنى عليه بأخذ ماله يجعل الأخذ فعلاً مباحًا والرضاء ليس ركنًا فى جريمة القتل والضرب فتطبيق هذه القاعدة الأصلية الملم بها يقتضى أن لا يكون لرضاء المجنى عليه فى جريمة الضرب والقتل أثر ما على المسئولية الجنائية أو العقوبة، ولكن هناك قاعدة أخرى أصلية مسلم بها وهى أن للمجنى عليه وأوليائه حق العفو عن العقوبة فى جرائم القتل والضرب، فلهم أن يعفوا عن القصاص إلى الدية ولهم أن يعفوا عن الدية والقصاص معًا؛ فلا يبقى إلا تعزير الجانى إن رأت السلطة التشريعية ذلك.


(١) بدائع الصنائع ج٧ ص٣٣٤ ظو البحر الرائق ج٨ ص٢٨٨ , ٢٩٤ , ٢٩٥.
(٢) نهاية المحتاج ح٧ ص٢٣٧ , ٢٤٠ , ٣٣٠ , ٣٣٣ , المغنى ج٩ ٣٢٠ - ٣٣٨ ومن ص٥٧٧ - ٥٨١.

<<  <  ج: ص:  >  >>