للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم- أي من فقر المسلمين- فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ... » «١» .

على أية حال فهم النبي صلّى الله عليه وسلم رسالته، وأن إنشاء دولة على أساسها أمر أصيل فيها، فما أن هاجر من مكة إلى المدينة حتى شرع على الفور في تأسيس الدولة لتحمي الدعوة وتنظم المجتمع.

وقد يقول قائل: لماذا لم يبدأ منذ البداية في تأسيس الدولة في مكة؟ والرد على ذلك: أن ذلك لم يكن ممكنا في مكة؛ لأن الوضع لم يكن مهيئا، فمكة قد ناصبت الرسالة وصاحبها العداء منذ البداية بل سدت في وجهه كل الطرق ليبلغها، لغيرهم من الناس، فلم يكن ممكنا ولا منطقيّا الحديث عن قيام الدولة في مكة، أما في المدينة فأصبح الوضع مختلفا تماما والمناخ غير المناخ والناس غير الناس.

فأهل المدينة أبدوا استعدادهم- بمحض إرادتهم- لقبول الرسالة والإيمان بها والدفاع عنها وعن صاحبها مهما كان الثمن. لذلك لم يضيّع الرسول صلّى الله عليه وسلم وقتا في المدينة، بل بدأ على الفور في وضع لبنات الكيان الجديد، وخطا في ذلك خطوات عملية منها:

أولا: بناء المسجد النبوي في المدينة «٢» الذي لم يكن فقط مسجدا للصلاة؛ بل كان مركزا للدعوة ومقرّا للحكم، وليس في هذه العبارة غرابة أو مبالغة، فكما كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يتلقى الوحي فيه ويبلغه للناس ويشرح ويفسر ويعلم أصول الرسالة، كان كذلك يقضي ويحكم، وفيه يعلم الصحابة- رضوان الله عليهم- أمور الدين وأمور الدنيا ويدربهم على فنون الحكم والقيادة والإدارة، ويعدهم للدور الخطير الذي سيقومون به في الدولة وفي تاريخ العالم. ومن المسجد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعقد


(١) سيرة ابن هشام (٤/ ٢٤٩) .
(٢) سيرة ابن هشام (٢/ ١١٤) ، وابن كثير- البداية والنهاية (٣/ ٢١٩) مكتبة المعارف- بيروت- لبنان (سنة ١٩٨٠ م) ، ود. محمد حسين هيكل- حياة محمد (ص ٢٢٠) دار المعارف بالقاهرة الطبعة الثانية عشرة.

<<  <   >  >>