للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهناك فارق آخر بين الإسلام والمسيحية من حيث النشأة التاريخية لكل منهما فالمسيحية كما هو معروف، نشأت في فلسطين، حيث ولد السيد المسيح عليه السّلام، وفلسطين يومئذ مستعمرة رومانية، والدولة الرومانية كانت في تلك الأزمان دولة كبيرة وعتيدة. دولة لها نظامها الاجتماعي الخاص بها، ولها قوانينها الراسخة، والتي كانت مبعث فخرها- لا تزال القوانين الرومانية تعتبر ينبوعا لمعظم القوانين في أوربا- فلم تكن الدولة الرومانية لتسمح للسيد المسيح عليه السّلام أن ينازعها سلطانها، وأن يقيم في ولاية من ولاياتها دولة ومجتمعا يخالف نظامها وقوانينها. ولقد أدرك السيد المسيح نفسه هذا الوضع فلم يحاول أن يقحم نفسه ورسالته في هذا الميدان، ولم يسع لإقامة دولة مسيحية على أساس الديانة المسيحية، ونقلت الكتب المتداولة في أيدي المسيحيين الآن عنه قوله: «دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر» «١» . ويعني هذا أن المسيحية قصرت جهودها على العمل في ميدان الروح والوجدان، وقد نجحت المسيحية في رسالتها الروحية، قبل أن ينحرف بها أتباعها- كما انحرف اليهود من قبل بديانتهم- ويحمّلوها ما ليس من طبيعتها، وما فوق طاقتها، وهذا موضوع طويل وليس مكانه في هذا البحث. وإنما كل ما نريد أن نوضحه أن النشأة التاريخية للإسلام تختلف عن النشأة التاريخية للمسيحية، وأن هذا كان له تأثير كبير على نشأة الدولة الإسلامية ذاتها. فالإسلام نشأ في إقليم الحجاز في شبه الجزيرة العربية، حيث ولد محمد صلّى الله عليه وسلم، وتلقّى رسالته، وهذه المنطقة التي ولد فيها النبي صلّى الله عليه وسلم، ونشأ فيها الإسلام، كانت مستقلة تماما عن أي نفوذ أجنبي، فلا سلطان عليها لا لملك ولا لإمبراطور، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فلم تكن بالمنطقة نظم أو قوانين كتلك التي كانت سائدة في فلسطين- المستعمرة الرومانية- عند نشأة المسيحية. وكانت تلك فرصة طيبة للإسلام لكي يقيم المجتمع والدولة والنظام الذي يريده، على أساس الشريعة التي أنزلها الله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، دون تدخل من أية قوة خارجية أو إعاقة من أي نظام أو قانون داخلي، ولم يكن مضطرّا لقصر عمله على ميدان الروح والوجدان «٢» ؛ بل عمل في ميدان الروح والوجدان، وعمل في واقع الحياة وفي كل ميدان من ميادينها الفسيحة. وكان من حيث طبيعته العالمية، ومن حيث نشأته التاريخية مهيئا لإقامة دولة إسلامية ذات


(١) إنجيل متى- الإصحاح الثاني والعشرين- الآية (ص ٢١) .
(٢) سيد قطب- العدالة الاجتماعية في الإسلام (ص ٤) وما بعدها.

<<  <   >  >>