صبغة عالمية. ولقد قامت الدولة الإسلامية بعد هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب- المدينة المنورة بعد الهجرة- مباشرة، فمنذ اللحظة الأولى بدأ الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة في إرساء دعائم دولة الإسلام وصياغة المجتمع الإسلامي وقد خطا صلّى الله عليه وسلم في هذا المجال خطوات عملية وسريعة من أهمها:
أولا: بناء المسجد النبوي في المدينة «١» ، وكان هذا هو أول عمل قام به النبي صلّى الله عليه وسلم بعد الهجرة. وقد عمل في بنائه بنفسه مع أصحابه، وحول المسجد أقيمت مساكن الرسول صلّى الله عليه وسلم. وكان بناء المسجد النبوي بسيطا بساطة تعبر عن بساطة الإسلام نفسه وعزوفه عن البذخ والترف. ولكن هذا المسجد البسيط العظيم قام بالدور الرئيسي في حياة الإسلام والدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي. فلم يقتصر مسجد الرسول على إقامة الصلوات فيه، وإنما أصبح مركز النشاط الإسلامي كله، فهو مهبط الوحي، يتلقاه النبي فيه ويبلغه للناس، وفيه كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلم الصحابة- رضوان الله عليهم- أمور الدين والدنيا ويدربهم على فنون الحكم والقيادة والإدارة، ويعدّهم للدور العظيم الذي ينتظرهم لقيادة العالم، ونشر الدين، وحماية العقيدة، وبناء دولة الإسلام وتطويرها على أساس شريعة الله.
وكان المسجد مركز حكومة النبي صلّى الله عليه وسلم، فيه يقضي ويحكم بين الناس في المنازعات، وفيه يعقد الألوية والرايات لقواد حملاته العسكرية، ويعقد عهود الولاية للعمال على المناطق التي تدخل في تبعية الدولة الإسلامية. وفيه كان يستقبل الوفود الأجنبية، ومنه يرسل مبعوثيه كذلك، وحاملي رسائله إلى الأمراء والملوك والأباطرة المعاصرين، وفيه كان صلّى الله عليه وسلم يناقش مشاكل المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية مع أصحابه بروح المعلم العظيم والقائد العظيم. وباختصار شديد ففي هذا المسجد البسيط اتخذت أعظم القرارات التي غيرت وجه التاريخ، وبدلت مصائر العالم، ومنه خرجت شعلة النور التي أضاءت جنبات الأرض، فلا غرو إذن إذا اعتبرنا بناء مسجد المدينة من أهم ركائز قيام الدولة الإسلامية.
ثانيا: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. تلك المؤاخاة التي قامت على أساس العقيدة الإسلامية، والتي ربطت بينهم بهذا الرباط الوثيق، وجعلتهم أمة متميزة بخصائصها الإسلامية، وكانت في نفس الوقت دليلا عمليّا واضحا على طبيعة
(١) انظر: بناء مسجد الرسول في ابن هشام، السيرة النبوية، القسم الأول (ص ٤٩٦) ، وابن كثير- البداية والنهاية (٣/ ٢١٩) ، ود. محمد حسين هيكل- حياة محمد (ص ٢٢٠) .