البشري أكذب من هذه المقولة، لسبب بسيط، وهو أن كلمتي صراع وحضارة تتناقضان تمام التناقض، والمسافة بينهما أبعد مما بين المشرق والمغرب؛ لأن الحضارة تسامح وحب وعطاء، وكلها مفردات بعيدة كل البعد عن الصراع، فالإنسان المتحضر حضارة حقيقية لا يعرف إلا الحب والتسامح فإذا كان قويّا أخذ بيد الضعيف ورفع عنه الظلم، وإذا كان غنيّا عطف على الفقير وأعانه على أمره، وكذلك تفعل الدول القوية إذا كانت متحضرة حضارة حقيقية.
أما الصراع فلا يمكن أن يكون بين حضارات، وإنما يحدث الصراع من أجل السيطرة والهيمنة وفرض الإرادة ومن أجل المطامع الاقتصادية ... إلخ. ولقد شهد التاريخ صراعات ومصادمات عنيفة بين مسلمين ومسلمين، وهم أبناء حضارة واحدة، وحدث الشيء نفسه بين مسيحيين ومسيحيين وهم أبناء حضارة واحدة. فالحربان العالميتان الأولى (١٩١٤- ١٩١٨ م) والثانية (١٩٣٩- ١٩٤٥ م) اشتعلتا على الأرض الأوربية في أقل من ربع قرن والذين أشعلوها أبناء حضارة واحدة. بل إن المصالح الاقتصادية والأهداف السياسية كانت تتغلب حتى على الدين فرأينا تحالفا وتعاونا يقوم بين دولة مسيحية ودولة مسلمة ضد دولة مسيحية ودولة مسلمة أخرى، كما حدث بين الأمويين في الأندلس والبيزنطيين في القسطنطينية ضد العباسيين في بغداد ودولة الفرنجة في الغرب وما حدث بين الأخيرتين من تحالف وتعاون ضد الأمويين والعباسيين وكل هذه التحالفات وراءها مصالح اقتصادية وسياسية، لا أريد أن أطيل أكثر من هذا بين يدي ملخص البحث، لأني لم أرد إلا التنويه بأهمية ذلك المؤتمر الذي يعد من وجهة نظري- تحية واجبة للحضارة العربية الإسلامية- وهي تستحقها لدورها العظيم في خدمة الحضارة الإنسانية بصفة عامة، والحضارة الأوربية بصفة خاصة. كما أحب أن أنوه بأن أعظم هدية قدمتها الحضارة العربية الإسلامية للبشرية هي التسامح، فالتسامح الذي تحلى به المسلمون الفاتحون الأقوياء مع الشعوب المغلوبة لا نظير له باعتراف كثير من الباحثين المنصفين من الأوربيين أنفسهم، الذين نذكر منهم على سبيل المثال السير «توماس أرنولد» في كتابه «الدعوة إلى الإسلام» ، والعلامة «جوستاف لوبون» في كتابه «حضارة العرب» ، والدكتورة «سيجريد هونكه» في كتابتها «شمس العرب تسطع على الغرب» .
فقد أظهر هؤلاء العلماء كيف كان تسامح المسلمين الفاتحين مع المغلوبين وتركوا لهم الحرية الكاملة في مجال العقيدة وحافظوا على أرواحهم وممتلكاتهم وكرامتهم،