فقد أسس الفاتح عمرو بن العاص مدينة الفسطاط (سنة ٢١ هـ) أي: عند تمام الفتح، أسس مسجده العتيق- أو تاج الجوامع- الذي يعتبر أول مسجد يؤسس في قارة أفريقيا والذي أصبح مركزا للدراسات الإسلامية، ومدرسة من أشهر المدارس، أساتذتها هم صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم سواء الذين جاؤوا مع جيش الفتح مجاهدين، أو الذين لحقوا بهم وجاؤوا بعد تمام الفتح وطاب لهم المقام في أرض الكنانة، وعلى ضفاف النيل واستقروا فيها، وقد ازدهرت المدرسة المصرية في الدراسات الإسلامية، وذاع صيتها، وأصبحت لها مكانة علمية رفيعة، فتاقت نفوس علماء الأقطار الآخرى إلى زيارتها وملاقاة علمائها والأخذ عنهم وإعطائهم أيضا، فالعلم أخذ وعطاء، فما من عالم كبير في المشرق- في ذلك الوقت- سواء في مكة المكرمة، أو المدينة المنورة، أو الكوفة، أو البصرة، أو دمشق، أو بغداد، إلا وتراه قد زار مصر، وتعرف على علمائها وأخذ عنهم وأعطاهم.
وكان من الطبيعي أن يتطلع طالب علم نابه مثل ابن إسحاق إلى زيارة بلد مثل مصر، فشد رحاله إليها، وهو في شرخ شبابه وفي مرحلة القوة والفتوة والقدرة على السفر، والشد والترحال، وحدة الذهن والقدرة على الحفظ والاستيعاب، فقد بدأ زيارته لمصر (عام ١١٥ هـ) ، أي: عندما كان في حوالي الثلاثين من عمره، وقد تجول في أقاليم مصر، وزار مدينة الإسكندية، التي كانت عاصمة مصر منذ أسسها الإسكندر الأكبر المقدوني، في الثلث الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد إلى الفتح الإسلامي في منتصف القرن السابع الميلادي، أي: أنها ظلت عاصمة مصر قرابة ألف عام، وكانت بها مدرسة علمية لها شهرة عالمية، في علوم الطب والفلك والهندسة والرياضيات والكيمياء والفلسفة.
فكان من الطبيعي أن يزور ابن إسحاق الإسكندرية ما دام قد حل بأرض مصر.
وقد التقى بكثيرين من علماء مصر، وفي مقدمتهم عالمها الأكبر، يزيد بن أبي حبيب، وروى عنه كثيرا، وقد أشرنا فيما سبق- ونحن نتحدث عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري شيخ ابن إسحاق- إلى الوثيقة التي رواها ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب، ثم عرضها على شيخه الزهري، ليتأكد من صحة المعلومات التي جاءت بها ثم التقى بعبد الله بن جعفر، والقاسم بن قزمان، وعبيد الله بن المغيرة وغيرهم، وبعد أن تزود من علم علماء مصر، وتأثر بهم وأثر فيهم، واطلع على اتجاهات المدرسة المصرية في الدراسات الإسلامية، عاد إلى المدينة ليواصل