للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أولا: كان الأمويون مشغولين بالفتوحات وتثبيت أركان الدولة وتوطيد أجهزتها ومؤسساتها المدنية والسياسية والإدارية وهذا كله كان يحتاج إلى جهد كبير فكان من الحكمة أن يعطوا الأولوية لهذا العمل، وهو عمل شاق ويحتاج إلى وقت طويل.

ثانيا: هذه العلوم الكثيرة التي تركها الأقدمون مثل الطب والهندسة والفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفلسفة تحتاج إلى استعداد كبير وإلى كتيبة كبيرة بل كتائب من المترجمين، وهذا لم يكن ميسرا للأمويين، لدرجة أنهم أبقوا على بعض اللغات الأجنبية مستخدمة في أهم أجهزة الدولة، وهي دواوين الخراج التي كانت تمثل وزارة الخزانة للدولة فقد بقيت اللغة الفارسية مستخدمة في ديوان الخراج في العراق وبلاد فارس وبقيت اللغة اليونانية مستخدمة في ديوان الخراج في مصر والشام وكانت تلك ضرورة تعامل معها الأمويون بذكاء وتسامح وسعة أفق ولكنهم أخذوا يستعدون ويعدّون الرجال الذين سينهضون بترجمة هذه الدواوين ونقلها إلى اللغة العربية واستغرق ذلك عشرات السنين، ولم تبدأ عملية التعريب إلا في منتصف خلافة عبد الملك بن مروان «١» نحو سنة (٧٤ هـ- ٦٩٣ م) واستغرقت نحو نصف قرن؛ لأن آخر ديوان تم تعريبه كان ديوان خراسان (١٢٩ هـ- ٧٤٦ م) فإذا كان تعريب الدواوين- وهي رغم أهميتها تعد محدودة- احتاج إلى هذا الوقت الطويل، فإن تعريب العلوم وهي كثيرة ومتنوعة لا بد أنه يحتاج إلى وقت أطول، ولو بقيت الدولة الأموية وعاشت فترة أطول لبدأت عملية ترجمة العلوم ربما في وقت أبكر من الوقت الذي بدأ فيه العباسيون عملية الترجمة؛ لأن كثيرين من الذين اضطلعوا بعبء الترجمة في العصر العباسي كانوا من الذين تعلموا اللغة العربية في العصر الأموي، فكثير من الموظفين غير العرب الذين كانوا يعملون في دواوين الخراج اضطروا لتعلم اللغة العربية عند ما عربت هذه الدواوين ليستمروا في عملهم، وهذا أدى إلى ذيوع اللغة العربية وانتشارها على نطاق واسع بين أبناء البلاد المفتوحة وهذا التطور الحضاري الكبير كان في مصلحة حركة الترجمة الواسعة النطاق للعلوم النقلية والفلسفية التي شهدها العصر العباسي.

خلاصة القول: أن الأمويين لم تكن تنقصهم الهمة ولا كانوا غافلين عن أهمية ترجمة تلك العلوم إلى العربية ولكن فقط كانت تنقصهم الوسائل وكانوا يحتاجون


(١) ابن النديم- الفهرست (ص ٣٣٨، ٣٣٩) .

<<  <   >  >>