بوتقته وحضّرهم، بل حولهم هم أنفسهم- وهم الذين بلغوا درجة من الوحشية والهمجية لم يبلغها أحد قبلهم- إلى بناة حضارة، فقد شاد المغول باسم الإسلام حضارة راقية ارتبطت باسمهم وبصفة خاصة في الهند- ظلت قائمة حتى دهمها الاستعمار الأوربي منذ مطلع القرن السادس عشر الميلاد، ولا تزال آثارها شاهدة على ازدهارها ورقيها وتلك هي عظمة الإسلام، التي حولت المتوحشين إلى متحضرين.
كانت هزيمة المسلمين في البداية أمام الصليبيين والمغول وانتصارهم في النهاية سنة من سنن الله الكونية التي لا تتبدل ولا تتغير، ولا تجامل أحدا من خلقه؛ «فقد كان واقع المسلمين- عند ما داهمهم الصليبيون والمغول- سيئا مليئا بالمعاصي والبدع والانحرافات والشتات والفرقة، والاشتغال بذلك كله عن نصرة دين الله، والتمكين له في الأرض، ولذلك اجتاحت جيوش الأعداء أراضي الإسلام، وأزالت سلطانهم إلى حين، ولكن جذوة العقيدة كانت ما تزال حية في النفوس وإن غشيتها غاشية من التواكل والسلبية، أو الانشغال بشهوات الأرض.
فما أن جاء القادة الذين يردون الناس إلى الجادة، بدعوتهم للرجوع إلى حقيقة الإسلام، حتى صحت الجذوة واشتعلت، فجاء على أثرها النصر؛ فحين قام صلاح الدين الأيوبي يقول للناس: «لقد هزمتم لبعدكم عن طريق الله، ولن تنتصروا حتى تعودوا إلى الطريق.. وحين صاح السلطان قطز صيحته الشهيرة: واإسلاماه، وتبعتهم جماهير الأمة المسلمة فصدقت الله في عقيدتها وسلوكها؛ جاء نصر الله، وتغلب المسلمون على أضعافهم من المشركين والكفار» . «١»
فهل هناك أمل أن يجتاز العالم الإسلامي محنته الحالية، وأن يخرج من هذا الحصار العالمي القاسي وأن يملك زمام نفسه، وأن يستمتع بثرواته ويسخرها لمصلحة أبنائه؟ علم ذلك عند ربي؛ لأن أعداء الإسلام اليوم أقوى بكثير من أعداء الأمس، ووحشيتهم وقوتهم في عداوتهم ربما لا تقل عن وحشية المغول والصليبيين وأدواتهم في الكيد والقهر والإذلال بغير حدود، ولكن على الرغم من كل ذلك فلا ينبغي للمسلمين أن يفقدوا الأمل في نصر الله الذي وعد به عباده المؤمنين، حيث قال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: ٤٧] ، بشرط أن يكونوا مؤمنين حقّا، وأن يحضروا أنفسهم للخلاص من السيطرة والهيمنة الغربية الجهنمية.
(١) محمد قطب- واقعنا المعاصر (ص ٧) مكتبة رحاب- الجزائر سنة (١٩٨٩ م) .