للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومنها مسألة اليهود، فبدون أن يحسم الموقف مع قريش لا يمكن أن تنطلق الدعوة الإسلامية إلى الآفاق العالمية، ولا يمكن أن يحسم مع أعداء الدعوة الآخرين، فيجب أن تتوجه الجهود إلى قريش؛ لأنها أقوى وأشرس أعداء الدعوة على الإطلاق في هذه المرحلة؛ لهذا كانت قريش أولا.

بعد نجاح النبي صلّى الله عليه وسلم في تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة، وبعد أن اطمأن به وبأصحابه المقام، اتجه ناحية مكة وقريش بالذات؛ ليس فقط لأن مكة هي أحب بلاد الله إليه، ولكن لأن عداء قريش للإسلام وموقفها الشرس منه كانت له انعكاساته السلبية على بقية القبائل في شبه الجزيرة العربية. فما دامت قريش لم تسلم ولم تذعن لله ورسوله، فإن بقية القبائل العربية- أو معظمها- سوف تحجم عن الاقتراب من الإسلام، أو بمعنى آخر سوف تكون حركة الدخول في الإسلام محدودة، وليس في هذا الكلام أية مبالغة، فقد كان واضحا أن قسما من قبائل العرب كان يحجم عن الدخول في الإسلام خوفا من قريش وسطوتها، وقسما آخر كان يجاملها لمركزها وسلطانها ومكانتها بين العرب التي هيأها لها جوارها للبيت العتيق. وكذلك لثرائها الذي حققه لها نشاطها التجاري الواسع بمقاييس عصرها.

وهل يخضع الناس لغير سلطان القوة والمال في أي زمان ومكان؟ وهل لو كانت قريش أسملت وتابعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم منذ البداية هل كان يلقى ما لقي من صدّ وإيذاء العرب الآخرين؟ ولو كانت قريش تابعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وآمنت به يوم ذهب إلى الطائف يعرض نفسه على ثقيف «١» هل كان الثقفيون يجدون الجرأة على أن يصنعوا به ما صنعوا من السخرية والاستهزاء والإيذاء؟ أم أن ثقيفا صنعوا به ما صنعوا؛ لعلمهم أن قريشا- وهم أهله وعشيرته- لن يسكتوا على ذلك قط، بل إن ذلك سيسعدهم وسيتشفّون به لدرجة أنه صلّى الله عليه وسلم لم يستطع أن يدخل مكة إلا في جوار المطعم بن عديّ «٢» .

بل لعل ثقيفا بالغت في إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم والسخرية منه لعلمها أن ذلك يسعد مشركي قريش ويسرّهم. وبالفعل فرحوا كثيرا، وأخذوا يتناقلون أخبار رحلته إلى


(١) انظر رحلة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى ثقيف وعرض نفسه على غيرها من القبائل في سيرة ابن هشام (٢/ ٢٨) وما بعدها. وابن كثير- السيرة النبوية (٢/ ١٤٩) وما بعدها.
(٢) انظر ابن كثير- السيرة النبوية (٢/ ١٥٤) .

<<  <   >  >>