الطائف في نشوة. وهل كان النبي صلّى الله عليه وسلم يجد من الصدّ من قبائل العرب مثل ما وجد لو خلّت قريش بينه وبين تلك القبائل يدعوها إلى الإيمان بالله الواحد الأحد؟
كلّا؛ بل كانت قريش تلاحقه وتسبقه إلى تلك القبائل، وكان أقرب الناس إليه من بني هاشم ومن أعمامه بالذات أبو لهب- عليه لعنة الله- ينفّر الناس منه ومن دعوته، قال ابن إسحاق: وحدّثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدّثه أبي؛ فقال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول:«يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدّقوني، وتمنعوني حتى أبينّ عن الله ما بعثني به» قال: وخلفه رجل أحول ... فإذا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قوله، وما دعا إليه، قال ذلك الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللّات والعزّى من أعناقكم ... إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه، قال: فقلت لأبي: يا أبت من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟
قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب- أبو لهب- «١» .
لكل ذلك كان من الضروري معالجة موقف قريش وحسمه- إن سلما وإن حربا- حتى تنطلق الدعوة وتشقّ طريقها في شبه جزيرة العرب، ومنها إلى العالم في أرجاء الأرض.
وقد يقول قائل: كان هذا في مكة، ورسول الله هناك يسفّه أحلامهم ويعيب آلهتهم، حيث كانوا يعتبرون ذلك إهانة لهم لا يمكنهم السكوت عليها، أمّا الآن وقد هاجر النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة وتركها بمن فيها وما فيها، ووجد في المدينة أنصارا آمنوا به وآزروه وأسّس دولته هناك، وقد تغير الموقف تغيرا كبيرا عما كانت عليه الحال قبل الهجرة، أفما كان الأجدر بالنبي صلّى الله عليه وسلم أن يدع قريشا وشأنها، وأن يدعو إلى دينه من موطنه الجديد، وأن يجنّد كل طاقاته لهذه الدعوة، بدلا من التربّص بقريش والاستعداد لها، ومضايقتها في تجارتها، وأن يغض النظر عما كان منها قبل الهجرة فهذه مرحلة قد انتهت؟ ويمكن أن يكون هذا الكلام صحيحا لو أن الهجرة كانت نهاية المتاعب من ناحية قريش، ولو كان نسيان طرد المسلمين من ديارهم
(١) ابن هشام (٢/ ٣٢) ، وابن كثير- السيرة النبوية (٢/ ١٥٥، ١٥٦) .