اللسان المدرك للطعوم لا يدركها إلا بالرطوبة واللين المشبهين لرطوبة الهواء ولينه، قالوا: ثم رأينا المحسة تدرك الحر والبرد في الهواء والماء ورقيق الأبدان، وأن غليظ الأبدان مستغلق على ما فيه محسوس لا يظهر منه إلا الأرق من الأبدان يمازحه فيظهر منه كرامته فتوصله إلى الحس قالوا: فلما رأينا الأشياء الموصلة متفقة على صفة واحدة من الرقة واللين التي في صفة النور قضينا للنور بجميع وجوه إيصال المحسوس إلى الحواس، وجعلناه سنخ العلم ومفيده ومستفيده فقلنا النفس النور. وضربوا مثلاً فقالوا: مثلها مثل السراج المنير عن نفسه المنير عن غيره المفيد للعلم لغيره. وكذلك النفس حيث كانت علمت وأفادت العلم.
قد حوت أبقاك الله هذه المقابسة ضروباً من الكلام في النفس مختلفة ومؤتلفة، وأنت إذا عنيت بما سبق في الكتاب وبما يتلوه أيضاً في الثاني غنيت عن الإكثار الذي ربما صد عن تحقيق المراد، والكلام كله بين زيادة ربما جلبت الفساد وفتحت باباً إلى الشك، وبين نقصان ربما جلب الأشكال وصار طريقاً إلى اللبس. وهذا إذا كان المتكلم عليه من باب الجلي ومن فن الواضح، فكيف إذا كان في الغامض الخفي اللطيف المحتجب؟ وهذا اقتصاد مني وتحفظ واستدعاء للمراقبة والتيقظ، فقل من استرسل وخطب مطنباً وأعجب بما يأتي به مستحسناً إلا دخل على صوابه ما يثلمه ويكسره، وغلب على خطله ما يتأدى به ويشهره. وخير الكلام في الواضح الجلي أن يكون لطيفاً يستجمع إلى السامع ما يربط مراده، وفي الغامض الخفي أن يكون مكشوفاً ليلحق السامع منه ما نحاه ببحثه وطلابه. فأما إذا تهافتت المعاني تارة بسوء التأليف، وتارة بالإكثار، وتارة بالتعريض، دخلها الخلل ولم يبلغ المحصل لها على ما قد ثبت رأيه وساق نظره وسعيه إليه، على أني أعذر كل خطيب مصقع، وكل بليغ وكل باحث متوغل، وكل طالب مترفق، إذا تكلم في النفس وبحث عن شأنها أن يعيا ويحصر ويقصر، فإن المطلوب في هذا الأمر صعب، والغاية بعيدة، والشوط بطيء، والعجز شامل، والناصر