كان "عبد الله النديم" أحد الذين أضرموا نار الثورة العرابية، فلما كانت موقعة التل الكبير في الخامس عشر من شهر سبتمبر سنة ١٨٨٢م، فر عرابي وجماعة معه وتبعهم النديم، ثم ألف وفد من الثائرين، واتجه إلى الخديوي بالإسكندرية يلتمس عفوه، ولكن النديم لم يتم رحلته معهم بل لجأ إلى الهرب، واختفى عشر سنين ضاربا في آفاق القرى متنكرا بمختلف الأزياء، وقد جدت الحكومة في طلبه، وأوصت بالعثور عليه وأرصدت ألف جنية مكافأة لمن يهدي إلى مكانه، وكان كثير من الناس يعرف مقره وتنقله، ولكن كان أكرم عليهم وأحب لديهم، فلما كان آخر عهد المرحوم توفيق باشا عثرت الحكومة عليه فسجن أياما، ثم أمر الخديوي بإبعاده إلى بلد يؤثره، فاختار فلسطين منفى له، وبعد أن لبث بها حينا تنقل في مدينة "الخليل" ونابلس، وبيت لحم، والمسجد الأقصى، ثم عاد إلى "يافا" التي غادرها إلى مصر حيث كان الخديوي قد تفضل بالعفو عنه، وقد أنشأ بعد عودته من منفاه صحيفة "الأستاذ" التي بلغت ما بلغت من الشهرة والصيت، وأثرت في أفكار الأمة ووجهتها، ثم لم يطل بها البقاء فكان نصيبها التعطيل، ولقي النديم مثل ما لقي من الدس والكيد وأبعد عن بلاده مرة أخرى، وطاب له المقام بالآستانة إذ أكرم السلطان وفادته وآثره بالعطف والتقدير، وعين مفتشا للمطبوعات في هذه الديار، وظل ينشر فضله ويذيع أدبه حتى استأثر الله به.
ومن تأمل بعين الاتعاظ في تقلب الأحوال بالمترجم، وما ذاقه من حلو الزمان ومره وقاساه مدة الاختفاء، ثم النفي حتى مات غريبا طريدا حق له العجب، وعرف كيف يعبث الزمان بأهل الفضل من بنيه١.
شخصيته:
تبدو عظمة الشخصية في كل مظاهر النديم، وفي جميع مراحل حياته فلقد
١ أعيان القرن الثالث عشر والرابع عشر لأحمد تيمور باشا ص٢٧.