كان أكبر من أن يدل عليه في كل أمر يتصل به، إنما تنطق شخصيته وتطالعك قوتها وبروزها حتى تعجب لها، تبرز شخصية النديم في كتابته وخطابته وأحاديثه، ولقد أشرب حب جمال الدين وتشربت مبادئه إلى شغاف قلبه فنم عن الإيمان بها كتابة وخطابة وحديثا، وما كان للحكومات المتوالية أن تضيق الفذة من معاني النحوة والشجاعة والثورة، وهو هو النافذ إلى القلوب إذا خطب أو كتب لأن التأثر به كان من بيانه ووجدانه أو هما معا.
ولقد تظهر شخصية النديم في وطنيته الجارفة التي لا تبالي بقوة في الأرض والتي تزيدها المحن مضاء وعزما، لقد فنى في الثورة العرابية ووهب لهما نفسه وحسه، ولو اقتصر وفاؤه لها على الدعوة لها ومؤزارتها والجهد في نجاحها لكان كأحد أبطالها لا يتميز منهم إلا بفصاحته، ولكنه امتاز بالوفاء للثورة بعد فشلها وإخفاقها، فإن دعاة الثورة وأنصار كل حركة يتنكرون لها بعد الهزيمة، ولكن النديم من الشخصيات القليلة التي أخلصت للثورة في محنتها وهذا ما يسمو به إلى مصاف الأبطال - وهو الزعيم الوحيد بين العرابيين الذي استمر في جهاده السياسي ونضاله عن مصر في عهد الاحتلال وهي ميزة كبرى انفرد بها دون بقية الزعماء الذين أثرت فيهم الهزيمة فوهنت لها روحهم المعنوية وانطفأت فيهم شعلة الأمل والحماسة والجهاد، أما هو فقد ظل على جادته واستمر يجاهد ويناضل حتى آخر نسمة من حياته، وهذا وحده يدلك على مبلغ علو نفسه وقوة شخصيته إذا لم تنل منه الشدائد ولم يضعف إزاء المحن والكوارث ولم يعرف اليأس إلى قلبه سبيلا١.
ولما تولى "عباس الثاني" بعد وفاة "توفيق" عفا عن النديم وأذن له بمغادرة منفاه إلى مصر، كانت الفرصة سانحة له أن يمالئ الاحتلال وأن
١ الثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي بك ٥٣٣ و٥٣٧.