يخفض جناحه لجبروته وسلطانه، وأن يخفف من العناد الذي أضناه والجهد الذي كابده، وكان من الميسور له لو جنح إلى السلم أو كف عن مجاهدته، ونضاله أن يجد في كنف "اللورد كرومر" معتمد البريطانيين إذ ذاك أرقى المناصب، وأسمى الوظائف، وخاصة بما اتسق له من المواهب الأدبية الممتازة، وكفايته العلمية الفذة، ولكنه عاف هذه الحياة، وآثر الوطن الحبيب إليه وحن طبعه وإحساسه إلى استئناف النضال، فكانت مجلته الأسبوعية "الأستاذ" سيفا مصلتا على رقاب الإنجليز يسكب فيها عصارة فكرة الثائر مقالات، وأزجالا ومناظرات، فتفعل بالنفوس الأفاعيل، ويتعلق الناس بها، ويتأثرون بأسلوبها ويسايرونها في إيمانها واتجاهها، ويغيظ ذلك الإنجليز ويألمون لأسلوبه ما يألمون، وهو هو المتدفق إيمانا وثورة الماضي في نضاله لا يلوي على شيء.
وإذ يتفاقم الخلف بين الخديو والإنجليز على أثر عزله "مصطفى باشا فهمي" رئيس النظار إذ ذاك، والذي كان أداة لهم وصنيعة يبث "النديم" في مجلته "الأستاذ" روح الخلف مع الإنجليز، ويستحث الهمم والعزائم لمناصرة الخديو، ومؤازرته فيشتد الإقبال عليها، ويجتمع عليه عداء الإنجليز، وسخطهم على مسلكه وحقد الصحفيين، وحسدهم لمكانة صحفه فيرمى بالتعصب ويتهم بالتهييج، وإثارة الخواطر وتعطل صحيفته، وينفى من وطنه.
وكان مما ودع به قراءة في آخر عدد من مجلة "الأستاذ" الصادر في ١٣ من يونية سنة ١٨٩٣ قوله:-
"ما خلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال ومصادمة النوائب، والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظمة والجلال، وإن كان المبدأ صعوبة وكدرا في عين الواقفين عند الظواهر، وعلى هذا فإني أودع إخواني قائلا:-
أودعكم والله يعلم أنني ... أحب لقاكم والخلود إليكم
وما عن قلى كان الرحيل وإنما ... دواع تبدت فالسلام عليكم