فتدرك أنه يحمل في صدره تاريخ جيل لم يدون في كتاب١.
وكان رحمه الله على جانب عظيم من البر والعطف، وقد ضرب مثلا من بره أنه صادف ذا حاجة على بابه في يوم ما، فشغله الحديث معه عن أن يقرئ خدمه السلام عند انصرافه، فلما تذكر ذلك وكان قد بلغ بسيارته "عابدين" أمر السائق، فقفل راجعا ليقوم لهم: إنه نسي السلام عليهم.
خطابته:
"الهلباوي" خطب قد عرف بأسلوبه وطريقته، وامتاز بطلاقة لسانه، وقوة حجته، حين يخطب تطالعك منه عدة شخصيات، فهو رجل التاريخ الذي عاصر أحداثه وصنعت على عينيه، وهو رجل القانون الذي نشأ في مهاده، وصاحب أطوار التشريع حتى آخر مراحل، وهو رجل الأدب المتمكن من العربية، النافذ إلى عميق أسرارها، الذي يعرف سر التراكيب، وموضع البلاغات، وموطن الإقناع وهو الفكه الظريف الذي يغير على العامية متى شاء، فيقتبس من أمثالها وفكاهاتها ما يطرب ويمتع.
كان جهوري الصوت، فصيح اللغة، مشرق العبارة، يلوح للسامعين بنكتته فيطربون لها ويقبلون عليه، فيهتبل هذه الفرصة ليلقي بما يحب من المعاني، وما يريد من الأغراض.
وكان في هجوم متلاحق مع سامعيه متدفقا في بيانه لا يكاد يخلص من غاية حتى يدخل بهم في غيرها، ولا يوشك أن ينتهي من غرض حتى يصله بغرض آخر، والسامعون في كل ذلك مشوقون مأخوذون بسحره مشددون إليه شداء.
وكان متمكنا من القول متصرفا في فنونه، فمرة يحلو ومرة يمر وطورًا تسمعه هادئا كالنسيم، وآخر يزأر كالأسد الهائج.
١ من مقال الأستاذ أحمد أمين بك في العدد ٢١٤ من مجلة الرسالة.