كسنة السابقين، ولكن ذلك لا يخرجه عن الوضوح والجزالة، وإيثار المعنى وتوخي الغرض.
نموذج من نثره:
مما قاله في مقدمة "أسرار الحماسة".
أما بعد. فلولا ما يؤثر عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، لما كتبت في اللغة العربية آية تذكر أو حديثا يؤثر، أو حكمة غراء، أو رجزا تحدو به حداة الإبل، أو قصيدة تسير مسير المثل، ومعاذ الله أن يكون ذلك ضنة وبخلا، أو بما وجب سفاهة وجهلا، ولكن رأيت نفوس القوم مصروفة إلى تحقيق المسائل العلمية والمباحث العقلية، والعليم عندهم من نظر إلى الاستدلال، وأكثر طرق الاحتمال، وولد من الكلام ما لا يولد، وأوجد من الأفهام ما لا يوجد، ولو علموا "هداهم الله تعالى" ما علمناه من خصائص اللغة وأساليبها، وما أودعت من لطائف الأسرار في تراكيبها، لهجروا تلك الكتب ذوات التنافر والتعقيد، واغتنموا لغة القرآن المجيد، والحديث الحميد.
على أنها لغة أمين أميين لا يعلمون القراءة والكتابة، ويعلمون ما تحت السحاب وما فوق السحاب، ما تركوا من أودية المعاني واديا إلا بحثوه، ولا طرقوا من مبهمات الكلام غامضا إلا استنبئوه، وهم مع ذلك لم تجمعهم جامعة كلية، ولم تحوهم مدرسة نظامية، وإنما كان العربي في بدايته يتلقى من أمه وأبيه، وفصيلته التي تؤويه، حتى غذا بلغ أشده واستوى طفق ينتقل في الأحياء، تنقل الأفياء، يستمع ما يترنم به الفتيان وتشدو به الركبان فيحفظ منهم ما سمعه، ويعي ما جمعه. فيتفتق بذلك لسانه، ويقوى جنانه، "وإنما العلم بالتعلم وملاك الفهم التفهم".