أن الموت استأثر بهم فقام من بعدهم فريق من الشعراء يهتدي مرة، ويضل أخرى، وتستقيم له الطريق حينا، وتلتوي به آخر.
وكان من آثار النهضة الجديدة في الشعر أن التفت كثير من الشعراء عن العكوف على طريقة العرب القديمة، فلجأوا إلى السهولة، ومجاراة العصر في الوصف، وتصوير الحضارات الطارفة، واستعملوا في شعرهم ما يتصل بشئون العصر من تعبير، أو تفكير، أو خيال، أو غرض، غير أن بعض الشعراء لا يزالون يتحدثون عن الأطلال والد من والأربع الخوالي، والناقة البيداء، والعرار وصبا نجد، وكأنهم لم يجدوا من بيئتهم الخصبة بخيالاتهم، ومشاهدها وصور الحياة فيها ما يشغلهم، ويكون مجالا لتفكيرهم، وأداة لخيالهم ومناطا لتصويرهم، وكأنهم يعيشون في عصر غير عصرهم، ويحدثون قوما لا صلة لهم بهم في الشعور والتصوير.
نحب تراثنا العربي المجيد، ونود أن نفاخر به في كل حين، وأن يستزيد الشعراء من استظهار هذه الثروة الخصبة ليستمدوا منها القوة والجزالة، ويستعينوا بها على تقوية الملكات وتنمية القرائح، لكن على أن يعين ذلك كله الشعراء على تأدية رسالتهم في هذه الحياة، فيوائموا العصر ويسارقوا الشعور، وإلا عاش الحاضر بماضي الآباء والأجداد، وعقم المعاصر عن إيجاد نهضة شعرية تكون للأدب حياة، وللشعراء مجدًا.
وهناك فريق من شعراء مصر انصرفوا عن القديم برمته، وأغضوا عن كل ما أعقبه الماضي من ثروة، وهاموا بالجديد وانفضوا عن القديم؛ لأنه قديم، كأن الجدة وحدها هي البريق الذي يخطف أبصارهم، نأى هؤلاء عن الشعر العربي القديم، وتخلوا عن أساليبه ففاتتهم جزالة النسج وأخطأوا النهج الواضح، وضلوا الأسلوب الرصين، وأصبحوا فراغا من القديم والجديد معا؛ لأن ما وافاهم من الجديد لم يكن إلا تخبطا وعثارا، وما كان هذا المسلك منهم إلا عيا في الملكات، وجمودا في القرائح، والمرهوبون من الشعراء الفحول من يجمعون بين جزالة القديم، وروعته وجدة المحدث وطرافته.