وكف يد الأيام عني فإنها ... لعمرك أبقت في نابا ومخلبا
بمن أحتمي منها إذا أنت لم تجب ... ندائي وبعد الغيث لم ألف معتبا
فكن يا رعاك الله بالموضع الذي ... عهدنك فيه أن تجيب وتطلبا
ودم سالما للدين تحمي ذماره ... وللمجد توري زنده بعد ما خبا
فهذه الأبيات من خير ما قيل في براءة النفس والتنصل من الذنب، وطلب الرضا والتماس العفو، وهي تجلو عليك صورًا كريمة من خلق الشاعر وغير سجاياه، فقد أبت همته أن يقارف سبة لم يقترف مثلها عمه، أو أبوه وهو يدعو بمجازاة الحسنى أعداءه، ويزيد معهم تأدبا كلما حاولوا انتقاصه، وما أروع تأثر النفس بما قصه من صديق تجنب سخطه، وآثر هواه إن خبيثا أو طيبا جازه في وقت حاجته، فأذاه بالتحرش بالعدوان، وألقى في نفوس أعدائه، وصار أشد منهم حربا وأنكى إيلاما، ويعرج بعد ذلك بنفس مكلومة، وقلب جريح إلى أبلغ العظات
وأروع الحكم محدثا عن الصديق، والزمان متذرعا بالصبر يدرك به مآربه التي لا بد هو موف على طرف منها، ساعيا إلى العلا ولو كان مركبها الأسنة.
ثم يتجه إلى أستاذه، فيخاطبه بكل ما يلين عطفه، ويلفت إليه قلبه ملتمسا منه صفحا لم يكن عن ذنب، وإذ يفترض نفسه مذنبا، فإنما يستعطفه بأبلغ الأساليب تأثيرا في النفس، فقد يكفيه مؤدبا إعراض أستاذه الماضي عنه، ثم يعرض عليه ما قد أصابه من فعل الوشاة، وما تخلف به عن ساقة القوم، وقد سبقهم بنفسه
وأصله ومنصبه، وما زال يكرر له هول ما أصابه، وشدة إعراضه عنه، وتنكره له حتى أوفى على الغاية التي لا يصلها إلا الشعراء الفحول في قوة أسلوب، وبلاغة تصوير، وإشراق ديباجة، وحسن عبارة.