وإنك لتقرأ شعره، فتحس بروح الشاعر تطل عليك من خلال قصيدة، وتصافحك عاطفته الرقيقة، ويتمثل لك صدق إحساسه، حتى لتنطبع على شعوره، وتشاركه فيما ذهب إليه:
واستمع إليه إذ يرثي صديقه "محمد سلطان باشا"، فيقول:
كفى بي حزنا أنني صرت ناعيا ... لنفسي نفسا في فناها فنائيا
فيا دمع أنجدني فما لي منجد ... سواك فأنى قد فقدت اصطباريا
ويا حزن لا ترحل فما لك موطن ... تقيم به إلا صميم فؤاديا
ويا حسرتى في كل يوم تجددي ... ويا لوعتي لازدت إلا تماديا
ويا كبدي حزنا وبؤسا تقطعي ... ويا جلدي إن كنت لا زلت واهيا
ويا صرف هذا الدهر جهدك إنني ... أمنت الذي قد كنت من قبل حاشيا
فانظر كيف بلغ به الأسى مداه، وصور بك فجيعته بموت صديقه الذي نعاه لنفسه التي فناؤها في فنائه، وكيف استنجد بالدمع بعد أن فقد اصطباره واستبقى الحزن ليقيم بفؤاده، وأوصى الحسرة أن تتجدد، واللوعة أن تزيد تماديا، والكبد أن تتقطع حزنا وبؤسا، والجلد أن كان لا يزال واهيا، صرف الدهر أن يجهد ما شاء فقد أمن ما كان يخشاه "إن الذي تحذرين قد وقعا"، ثم انظر إلى هذه المعاني الرقاق التي يصور بها غفرانه زلات الدهر ما دام لم يكف عن صاحبه، وإغضاءه جفنه على القذى ما دام "أبو سلطان" باقيا:
غفرت لك الزلات قبل؛ لأنني ... بكفك عن شخص العلا كنت راضيًا
وأغضيت عما فات جفني على القدى ... لأن "أبا سلطان" قد كان باقيا
ثم يمضي الشاعر، فيصور عظم الخطب فيه، وبلاغة الخسران بفقده فيقول:
لك الويل كل الويل يا هر إنما ... تعطلت مما منه قد كنت حاليا
عدوت على روض العلا فتركته ... هشيما ومن بعد الضارة ذاويا
وأقفرت ربعا كان بالفضل آهلا ... فأصبح -لا كفران لله- خاليا