للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كصوتٍ واحد، كما أنَّ خلْقَ الخَلقِ جَميعِهم وبعثَهم عنده بمنزلة نفسٍ واحدة، يرى دبيبَ النملة السوداء على الصخرة الصَمَّاء في ظلمة الليل، ويرى تفاصيل خلق الذرَّة الصغيرة، ومُخَّها وعروقَها ولحمَها وحركتها، ويرى مدَّ البعوضة جناحَها في الليل المظلم.

وفي مدِّ اليدين إلى الله إقرارٌ بعلوِّه على خلقِه؛ ذلك أنَّ الذين يرفعون أيديهم إلى السماء وقتَ الدعاء تقصد قلوبهم الربَّ الذي هو فوق عباده، وتكون حركةُ جوارحهم بالإشارة إلى فوق تبَعاً لحركة قلوبهم إلى فوق، وهذا أمرٌ يجده كلُّ داعٍ وَجْداً ضروريًّا، إلاَّ مَن تغيَّرت فطرتُهم وانحرفت عقيدتُهم، وعلوُّ الله على خلقه قامت عليه الأدلة الكثيرة والبراهين العديدة، فدلَّ عليه الكتاب الكريم والسنة الثابتة وإجماع الأمة والعقل السليم والفِطر المستقيمة، حُكي عن أبي جعفر الهمداني: أنَّه حضر مجلسَ أبي المعالي الجويني ـ أحدِ علماء الكلام ـ فذكر العرشَ وقال: كان الله ولا عرش، ونحو ذلك، يريد بذلك أن يتوصَّل إلى إنكار علوِّ الله، فقال له الهمداني: يا شيخ، دَعْنا من ذلك، وأخبِرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنَّه ما قال عارفٌ قطُّ يا الله إلاَّ وَجدَ في قلبه ضرورة لطلب العلوِّ، لا يلتفتُ يمنة ولا يسرة، فضرب أبو المعالي على رأسه، وقال: حيَّرني الهمداني.

والهمداني رحمه الله إنَّما بيَّن ما يقوم في قلب كلِّ داعٍ عندما يقول: يا الله، مِن حركة في قلبه ضروريةٍ إلى العلوِّ، وهذا يقتضي أنَّه مركوزٌ في الفِطر أنَّ اللهَ فوق عباده عليٌّ على خلقه.

<<  <  ج: ص:  >  >>