للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

- تتجاذبه خوارم المروءة، إذ يتنزه عنه ذووا الهيئات، فهو من جنس المكروه المستثنى من الممنوع والمكروه لا يكون مطلوبا ولكن مرخصا فيه. لذلك أخطأ من زعم أن حديث "إياكم ومحدثات الأمور" مستثنى منه بدع مستحبة، فالمستحب لا يستثنى من المذموم إذ ليس من جنسه. وما يخرم جنسُهُ مروءةَ ذوي الهيئات لم يصلح للتعبد. وهذه المعاني إنما تتمكن في الذهن إذا لاحظتَ منهاج التشريع.

والفرق بينهما:

أن المباح الأول خادم للضروريات (حفظ الدين والنفس .. ) متفرع عنها، فيصح أن يجعل عبادة فهو مصلحة شرعية في أصله وفرعه، بالكل والجزء.

والمباح الثاني أصله لا يخدم الضروريات بل يعطلها أو يقللها، فهو في العزائم منع، وإنما جاز رخصة لا أصلا، فلا يصلح أن يكون خادما للضروريات، فلا يكون عبادة. كاللهو فإنه مضر بالدين في عزيمته ومضر بالمال كدوام التفسح بالأسفار .. وهكذا. فهو في أصله غير خادم إنما جاز من باب الترويح على النفس لتعلم يهود أن في ديننا فسحة لا أنه من السنة. فتدبر.

المباح الأول مباح من باب العزائم، والثاني من باب الرخص المستثناة. والتعبد مشروع عزيمة فهو مثل المباح الأول لذلك يجتمعان بخلاف الثاني.

المباح الأول إن طرأ عليه ما يجعله مخالفا كالإسراف فإنه منهي عنه ويصح أن يترك ما قاربه من باب التحرز، لكن لا يترك ذلك المباح رأسا كالنوم. ففرق بين الدوام ومجاوزة الحد، فالأول يداوم عليه ما لم يسرف، والثاني لا يداوم عليه يوميا .. كاللهو والمزاح لو عددته في السيرة لم تجده في الغالب إلا إقرارا وفي ساعات من كل تلك السنوات. بخلاف المباح المطلوب فإنه السنة الجارية. لذلك من اعتصم بالعمل الأول وافق قصد الشرع وسلم من المعارضة يقينا.

ومن سلك سبيل اليسر في الاستدلال دون هذا التفصيل الذي قد لا تتسع له أذهان كثير فإن لك أن تقول في التعبد بترك المباح المطلوب أو بفعل المعفو عنه: تعبد لم يثبت عن النبي وأصحابه فيكون بدعة. وهذا أشبه بهذه الشريعة الأمية (١)


(١) - الموافقات المقدمة السادسة والنوع الثاني من كتاب المقاصد.

<<  <   >  >>