للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

- ومنها أن من عرف هذا لم ير لاجتهاد إحداث بدعة فائدة، إذ القصد العمل، والعمل العتيق كاف لمن صدق في قصده ..

- ومنها معرفة أن ما يوافق شهوات الخَلق ولا ينشزون عنه بفطرتهم لم يؤكد الشرع الأمر به، لأن القصد من الأمر حاصل وهو العمل، وهذا كالوطء فإنه واجب بالجملة يستدل على وجوبه بمجموع الشريعة، لذلك كان حكم الإيلاء .. والخلق جبلوا على ذلك، فلم يأت تقريره لأنه كاللغو حينئذ. فإذا عرفت هذا عرفت أن من مسالك الوجوب أن يخبر الشرع أن ذا من سنن الفطرة التي لا تبديل لها، واستمرار العمل عليها .. فمن رخص في حلق اللحية، وزعم أن ليس في السنة دليل على منعه، كان من غفلته، إنما كانوا قوما على أصل فطرتهم في مثل هذا، فلم يكن بهم حاجة إلى تأكيد الأمر به كل حين، لذلك لم يتواتر الخبر فيه عن رسول الله ، ولم يحتاجوا فيه إلى تصريح بحرمته كما صرح بتحريم الخمر والميتة وما أشبه ذلك مما كانوا يتعاطونه في الجاهلية، ويحتاجون إلى بيان شره وتذكير بخطره. والله أعلم.

فصل في بيان أن السنة في القربات أن لا يُسأل عن حِكمها (١).

وذلك أن شيمة العبد الطاعة دون أن يسأل لِمَ وفيمَ؟ لذلك امتنع القياس في القربات، والحاجة إليه فيها منعدمة.

وحقيقة التعبد هو الانقياد والذل، والعبد هو الذلول الذي لا يتلكأ، والسؤال عن حِكَم الأوامر قادح في العبودية. والقصد في هذا المقام التعبد من الله، إذ للتعبد إطلاقان:

تعبد من الله لعباده: وهو امتحانهم بالأمر الذي حجب عنهم حكمته، وهو الشائع عند الأصوليين يجعلونه قسيم المعلل الذي ظهرت حكمته.

وتعبد من العبد لله وهو التقرب إليه بامتثال أمره على وجه الذل له سبحانه، سواء عرف وجوه الأمر أم جهلها، فهو ممتثل مطيع.

فالأول فعل الله، والثاني فعل ابن آدم. وكلاهما متلازم، فالتعبد الذي هو فعل الله حجب الحِكم والامتحان بالعمل بلا مراجعة. والتعبد من العبد هو امتثال ذلك وأخذ الحُكم دون الالتفات إلى العلل، أي بالتسليم بلا علم تفصيلي .. وهو حقيقة الذل، لذلك سميت القربات كذلك لأن أخذها يكون دون معرفة وجوه الحكم فيها. والله


(١) - الموافقات: المسألة الثامنة عشرة من النوع الثاني من كتاب المقاصد.

<<  <   >  >>