للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[فصل في التمثيل للكمال الذي انتقصته البدع]

لو تأملت حديث أبي فراس البليغ الذي قام فيه الناصح الأمين بقوله: إياي والبدع! والذي نفس محمد بيده، لا يبتدع رجل شيئا ليس منه إلا ما خلَّف خير مما ابتدع. إن أملك الأعمال خواتمها، إنكم ترجعون إلى ما في قلوبكم، من شاق شق الله عليه، فدعوني ما ودعتكم فإنما هلكت الأمم باختلافهم على أنبيائهم. ثم علمهم جبريل ما الذي ينبغي أن يسألوا عنه، وأن تكلف البحث في ما لم يؤمروا من البدع.

فانظر كيف علمنا النبي أن ما وَدَعَه لا ينبغي التفتيش عنه، فإن السنة والحكمة والحق ألا يشتغل به، وأن السكوت منه مقصود لا غفلة. فالدين قد كمل، ومن زاد بدعة فقد انتقص سنة خيرا مما أحدث، أبصر ذلك أو عشي عنه. وإنما الدين مثل الجدار المتماسك المرصوص، من أراد أن يزيد لبنة لا بد أن ينتقص لبنة. ولكن من أشرب البدع لم يجد طعم قوله: خير الهدي هدي محمد .

وأنت لو تأملت تاريخ العلم والعمل وجدت ذلك حقا، وسأذكرك بأطراف تدلك على ما وراءها فتدبر:

كان النبي يبين عن الله حدود ما أنزل في ثلاث وعشرين سنة بقوله وحاله وفعله وتركه وتقريره، وأقصد بالحال ما يصاحب الكلام من قرائن وإشارات بالوجه أو اليد .. تبين القصد، ومتى أهمِلت زاغ الفهم وضل عن معرفة المقصود. وكان أبعد الخلق عن اللغو، فما بينه بالقول فالقصد والحكمة بيانه كذلك لا عبثا، وما بينه بالفعل والترك كذلك مقصود، وما وكله إلى الإقرار يدل على تأخر مرتبته ..

فكان له منهج في التعليم وتربية أصحابه، ورثها عنه الراسخون في العلم منهم كما في الحديث الصحيح "إن العلماء ورثة الأنبياء" [د ٣٦٤٣] ورثوا عنهم العلم بمنهجه، فكانوا يبينون للتابعين بالقول والحال والفعل والترك والتقرير كما تقدم. كذلك أهل البيان أبدا وهم العلماء (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب) [آل عمران ٧٩] فيربي العالِمُ الناسَ على نحو ما رُبي على مكث كما كان النبي يعلم أصحابه، وهذا يكون بالصحبة، وهو أقرب إلى الحفظ وحسن الفهم، وأقوى على العمل،

<<  <   >  >>