الإنسان راعى أنواعًا عظيمةً من الخلقة في تخليقه، واعتبر أقصى الغايات في الرحمة والإحسان، ثم إنّ الحُسْن يدلّ على أنّه بعد الانتهاء إلى سنّ الوقوف، يأخذ في التراجع والانقباض والانتكاس قليلًا قليلًا، حتى يحصل إلى بدء الضعف والنسيان، وهو المراد من قوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥)﴾ [التين].
فهنا سؤالٌ: هل له بهذه الأبدان عنايةٌ أم لا؟ فإن كان، فكيف أبطلها وردَّها إلى أسفل سافلين؟ وإلّا فكيف خلقها؟ وكيف اعتبر جميع أنواع القيامة في ظلمها.
والله أجاب عن ذا بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦)﴾ [التين]، وتقريرُه: لو لم يحصل للإنسان سعادةٌ في الآخرة، لكان ذا السؤالُ لازمًا؛ لأنّ السعيَ في إتمام هذا القصر الرفيع الشريف أولا، هذا أوّلًا، ثم السعي الشديد في تخريبه ثانيًا لا يليق بالحكمة، بتقدّم أن يكون المقصود من إيجاد هذا القصر نفس هذا القصر فقط، أمّا إذا كان المقصود من بنائه أن يكون آلةً أو وسيلةً إلى تحصيل مقصود آخر، ففي مبدأ الأمر يجب تحصيل تلك الآلة، وعند حصول أداء المقصود يجب طرحها وإبطالها، فعلى هذا لا يكون خلقه في أحسن تقويم ثم ردّه إلى أسفل سافلين عبثًا وخارجًا عن الحكمة.
والأمر ههنا كذلك؛ لأن النفس الإنسانية خلقها في مبدأ الفطرة خاليةً عن المعارف الحسية والأخلاق الفاضلة، كما قال: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١)(٧٨)﴾ [النحل]، فإذا استعملت النفس الإنسانية هذه الآلات الدينية