فيه الاستدلالُ بخِلْقَة الحيوان المركّب من بدنٍ ونفسٍ، وبدنُ كلِّ حيوان مقدَّرٌ بمقدار معيَّن، وهذا التقديرُ هو الخَلْق، وهو مركَّب من الأجزاء الحارّة والباردة والرطبة واليابسة، ويجب أن يكون كلُّ واحدٍ من تلك الأجزاء مقدَّرًا بمقدار معيَّن حتى يتولّد ذلك المزاجُ، فإنّه لو ازدادت تلك الأجزاءُ أو نقصت لكان الحادثُ مَزاجًا آخر لا ذلك المزاج، وهذا هو التسوية.
٥٠٩ - قال الرازي (١): وأما الاستدلالُ بنفس الحيوان فهو المراد من قوله ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣)﴾ [الأعلى: ٣] ومعناه أنّه ﷾ قدّر لكل واحدٍ من تلك الأعضاء المخصوصة قوّةً مختصّةً بذلك العضو، ثم جعل تلك القوة سببًا لاهتداء ذلك الحيوان بتلك القوة إلى تحصيل مصالحه ومنافعه مثل أنه قدّر للعين القوّةَ الباصرةَ، وللأذن القوّةَ السامعةَ، وللمعدّة القوّةَ الهاضمةَ، وأمّا الاستدلالُ على الصانع بأحوال النبات فهو قوله ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (٥)﴾ [الأعلى] وهو معلوم، وإنما قدّم الاستدلالَ بأحوال الحيوان على أحوال النبات؛ لأنّ الحيوان أشرف، ولأنّ عجائب الأحوال في الحيوان أكثر، فكان أولى بالتقديم، فإن قال قائلٌ: لمَ لا يجوز أن يكون تولُّدُ أبدان الحيوانات وأجرام النبات بسبب الطبيعة لا بسبب الفاعل المختار، قلنا: الدليلُ عليه هو أن جسمَ النطفة جسمٌ متشابِه الأجزاء متشابِه الطبيعة، وتأثيرُ طبيعة الرحم تأثيرٌ متشابِةٌ، وتأثيرُ الطبائع والأفلاك والأنجُم فيه تشابهٌ، والجسم المتشابه إذا أثّرت مؤثراتٌ كبيرةٌ في جملة ذلك الجسم تأثيرًا متشابهًا، فيستحيل أن تتولّد منه أحوالٌ مختلفة، ألا ترى أنّه إذا وضع الشمع، فكلما تُضيءُ خمسةَ أذرعٍ من أحد الجوانب وجب أن تُضيء من
(١) انظر: التنبيه على بعض الأسرار المودعة في بعض سور القرآن الكريم (ص ٣٠).