و {لَا مُقَامَ} قال: [لا إِقامةَ ولا مَكانةَ]: ألا إقامةَ، تفسيرٌ للضَّمِّ: مُقام؛ لأنه من الرُّباعي، والرباعي يُقال في مَصدره المِيمِيِّ: مُقَام، ومَقَام: لا مَكانة على أنَّها اسمُ مَكَان، واسم مَكان بفَتْح الميم، والمعنى: لا مَوْضِع للإقامة، على كونها اسم مَكان، أو لا إقامةَ لكم، ويَقولون: لا إقامةَ لكم؛ لأنهم يُرِيدون الفِرَار، ولا يُرِيدون البقاء مع النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في القِتال، إذ إنهم مُنافِقون، والمُنافِق ليس صَبورًا على القِتال، بل لا يُريد القِتال، ولو ظهَر الأمرُ في يَدِه لقاتَل المُسلِمين.
وفي قوله تعالى:{يَاأَهْلَ يَثْرِبَ} إشارة واضِحة إلى القَوْميَّةِ والعَصَبيَّة؛ لأنه دعاهم باسْمِ الوطَن ما قال: يا إِخْوَتنا. ولا قال: يا أيُّها المسلِمون! إنما قال: {يَاأَهْلَ يَثْرِبَ}؛ لأنه ليس عنده دِينٌ يُقاتِل من أَجْله، وإنما هو قوميٌّ يُريد الحَمِيَّة فقط.
وقوله تعالى:{لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} يَقول المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [إلى مَنازِلكم من المدينة وكانوا خرَجوا مع النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى سَلْعٍ جَبل خارِج المَدينة للقِتال].
وقوله تعالى:{لَا مُقَامَ لَكُمْ} حسب ما يُعرَف في اللغة العربية أنَّه نَفْيٌ عامٌّ؛ لأن (لا) النافية للجِنْس تُفيد العُموم، يَعنِي: ليس هناك أيُّ مُقام على أيِّ حال من الأحوال فارجِعوا، ومثل هذا التعبير إذا قيل لقومٍ ليس في قُلوبهم إيمانٌ لا يُبقِي منهم أحَدًا، لا بُدَّ أن يَرجِعوا.
ثُمَّ قال اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِناءً على هذا الأمرِ وأنه لا مُقامَ لهم:{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} وهَؤلاء أَهونُ من الأوَّلين؛ لأن الأوَّلين دَعَوْا إلى الفِرار بدون استِئْذان، قالوا:{لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}، أمَّا هؤلاء فإنهم يَستَأذِنون النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولكن استِئْذانهم للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ليس كاستِئْذان المُؤمِنين الذين إذا كانوا معه على أَمْرٍ جامِع لم يَذهَبوا حتى يَستَأذِنوه، لكنهم يَستَأذِنون خِداعًا وتَمويهًا؛