للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والصَّبْر على أقدار اللَّه تعالى المُؤْلمِة لا يُنال أجرُها ومَرْتبتُها إلَّا بوجود أَسبابها؛ فأمَّا أن يَقول الإنسان: أنا صابِر. ثُمَّ لا يَصبِر فإنه لا يَنال تِلكَ المَرْتبةَ، ولهذا كانَ الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَناله من أقدار اللَّه تعالى المُؤلمِة أكثَرَ من غيره، كما ثَبَت عنه أنه قال: "إِنَّهُ يُوعَكُ كَما يُوعَكُ الرَّجُلَانِ" (١)، يَعنِي: بمَعنَى أنه يُصاب بالحُمَّى كما يُصاب الرَّجُلان، وفي سِياق المَوْت شُدِّدَ عليه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من أَجْل أن تَتِمَّ له هذه المَرْتبةُ، مَرْتَبةُ الصابِرين؛ حتى يَنال أَعلاها.

والصبرُ هل هو واجِبٌ أو مُستَحَبٌّ؟

الصَّبْر واجِب، وقُلْنا -المَعنى العامُّ للصَّبْر: حَبْس النَّفْس عن التَّسخُّط والكراهةِ لأحكام اللَّه تعالى- ما قُلنا لشَريعة اللَّه تعالى؛ وقُلْنا: (لأحكام اللَّه)؛ لأَجْل أن يَشمَل هذا الصَّبرُ على أقدار اللَّهِ تعالى المُؤلمِة، فالصَّبْر إِذَنْ: واجِبٌ، وفيه أَجْرٌ كثير، قال اللَّه تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: ١٠]؛ ولهذا قال اللَّه تعالى في الصوم: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، الحَسَنهُ بِعَشْرِ أَمْثَالهَا، إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنا أَجِزِي بِهِ" (٢)؛ لأنَّ الصَّومَ حقيقةً اجتَمَع فيه أنواع الصَّبْر الثَّلاثة فهو صَبرٌ على طاعة اللَّه تعالى، وصَبْرٌ عن مَعصِيَّته، وصَبرٌ على أقداره المُؤلمِة.

ففيه صَبْرٌ على طاعة اللَّه تعالى؛ لأنه صَبْر على الصوم، وحَبْس نَفْسه على الرِّضا به فصَامَ، وصَبرٌ عن معصية اللَّه تعالى، فالصائِم مَأمور بأن يَجتَنِب أشياءَ كَثيرةً فاجتِنابُها صَبْر عن معصية اللَّه تعالى، وصبرٌ على أقدار اللَّه تعالى فالجُوع والعَطَش


(١) أخرجه البخاري: كتاب المرضى، باب أشد الناس بلاء الأنبياء، رقم (٥٦٤٨)، ومسلم: كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، رقم (٢٥٧١)، من حديث عبد اللَّه بن مسعود.
(٢) أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم، رقم (١٩٠٤)، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل الصيام، رقم (١١٥١)، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

<<  <   >  >>