فإنها ليسَتْ من مَقدورك، فهو صَبرٌ على أَمْرٍ ليس بمَقدورك؛ لهذا كان أَدنَى منها؛ ولذلك قال بعضُ السَّلَف في المُصاب: إمَّا أن يَصْبِرَ صَبرَ الكِرام، أو يَسلُوا سَلْوَ البَهائِم.
وهذا صحيح؛ مَن مِنَّا لم يُصَب ببَدَنه أو أهله أو ماله، ثُمَّ تَكون المُصيبة عَظيمة جِدًّا وبعد مُضِيِّ مُدة من الزمَن يَنساها ما كأنها شيء؛ ولهذا قال النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى"(١)، هذا حَقيقةُ الصَّبْر، أمَّا بعد ذلك تَبرُد النَّفْس، وتَتَلهَّى بأَمْر بما يَحدُث لها من شُؤُونها في حياتها حتى تَتَسلَّى ولا كأنَّ شيئًا جَرَى.
إِذَنِ: الصَّبْر أنواعه ثلاثة: صَبْرٌ على طاعة اللَّه تعالى، وصَبْرٌ عن مَعْصيته، وصَبرٌ على أقداره المُؤلمِة.
فصَبْرُ أيُّوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على ما مَسَّه من الضُّرِّ من باب الصَّبْر على أقدار اللَّه تعالى، وصَبْرُ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عن فِعْل الفاحِشة في امرأة العَزيز صَبْرٌ عن مَعصية اللَّه تعالى، وفي صَبْره على ما ناله من أَلَمِ السَّجْن وأَذِيَّته صَبْر على أقدار اللَّه تعالى المُؤلمِة، وهل ليُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَبْرٌ على طاعة اللَّه تعالى؟
الجَوابُ: نعَمْ، دَعْوته أهلَ السِّجْن إلى عِبادة اللَّه تعالى وإلى تَوحيده، هذا من الصَّبْر على طاعة اللَّه تعالى.
فاجتَمَع في حَقِّه أنواع الصَّبْر الثلاثة، وهكذا تَكون أنواع الصَّبْر الثلاثة لكثير من عِباد اللَّه تعالى، فالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- صَبَر على طاعة اللَّه تعالى، وعن مَعصِيته، وعلى أَقداره، وهذا شيءٌ كثيرٌ.
(١) أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، رقم (١٢٨٣)، ومسلم: كتاب الجنائز، باب في الصبر عند الصدمة الأولى، رقم (٩٢٦)، من حديث أنس -رضي اللَّه عنه-.