للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأمَّا تَعريف ابنِ القَيِّم (١) رَحِمَهُ اللَّهُ للصَّبْر، فيَقول: هو حَبْس النَّفْس عن الجَزَع، واللِّسان عن التَّشكِّي، والجَوارِحِ عن لَطْم الخُدود وشَقِّ الجُيوب؛ وهو صحيح وقولنا: (عَن الكَراهةِ لحُكْم اللَّهِ تعالى) أعَمُّ ممَّا قاله رَحِمَهُ اللَّهُ.

أمَّا الصَّبْر على طاعة اللَّه تعالى: فهو أَعلى أنواع الصَّبْر؛ لأنَّه صَبْرُ النَّفس على عمَلٍ وحرَكة وتعَب، والصبر عن مَعْصِية اللَّه تعالى دونه في المَرْتَبة؛ لأنَّ فيه حَبْسًا للنفس عمَّا تَشتَهِيه، من أجل أنه مَعصية للَّه عَزَّ وَجَلَّ، لكن هل فيه عمَل كالصَّبْر على طاعة اللَّهِ تعالى؟ لا، ليس فيه عمَل، ما فيه إلَّا كفُّ النَّفْس عن هذا المُحرَّمِ، فبِهذا تمَيَّز الصَّبْر على طاعة اللَّه تعالى على الصبر عن مَعصِيته؛ لأن في كلٍّ مِنهما جِهادًا للنَّفْس، لكِنَّ الصَّبْرَ على الطاعة فيه تَكليف النَّفْس بالعمَل، وهذا ليس فيه تَكليفُ نفسٍ بالعمَل، ولكِنْ فيه الكَفُّ عن مَعصية اللَّه تعالى؛ فلهذا كان دون الأَوَّل في المَرتَبة، ولكننا نحن نَقول: دونَ الأوَّل في المَرْتَبةِ. باعتِبار نَفْس النَّوْع لا باعتِبار الصابِرين؛ لأن بعض الصابِرين يُعانِي من المَشقَّة من الصبر على مَعصية اللَّه تعالى أكثَرَ ممَّا يُعاني من الصَّبْر على طاعة اللَّه تعالى، فلو فرَضْنا أن رجُلًا تُساوِره نَفْسه وتَدْعوه إلى فِعْل الفاحِشة بضَغْطٍ شديد، ولكنه عِندما يُصلِّي يَجِد نفسه مُرتاحًا بدون عَناء ولا مَشقَّة، لا شكَّ أن مُعاناتَه الأُولى أشَدُّ، ولكن نحن نَتكلَّم عن أنواع الصبر من حيث هي نَوعٌ، بقَطْع النظَر عن الصابِر وما يَتعَلَّق بحاله.

أمَّا القِسْم الثالِث: فهو صَبْر على أقدار اللَّه تعالى المُؤلمِة، وهذا أَدْنى أنواع الصَّبْر؛ لأنه صَبرٌ على ما لا فِعْلَ للإنسان به، صَبرٌ على أمرٍ ليس من فِعْلك، ولا من مَقدورك، لكن الصبر على الطاعة وعن المَعصية من مَقدورك، أمَّا أقدارُ اللَّه تعالى


(١) عدة الصابرين (ص: ١٥).

<<  <   >  >>