للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقوله تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} يَعنِي: لا إلى نَفْسك؛ ولهذا كان النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يَنتَقِم لنَفْسه قَطُّ أبَدًا إلَّا أن تُنْتَهَك حُرُماتُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فإنه كان أشَدَّ الناس غضَبًا للَّه تعالى؛ لأنه ليس يَدْعو إلى نَفْسه كما يُوجَد من كثير من الدُّعاة يَدْعون إلى أنفُسِهم في الواقِع، يُريدون أن يُعَظِّمهم الناس وأن يَأخُذوا بقولهم، حتى إنهم إذا خُولِفوا في ذلك تَجِد الإنسان يَتكَدَّر؛ لا لأنه خُولِف أمرُ اللَّهِ تعالى؛ ولكن لأنه خُولِف هو، الذي هذا شَأْنُه إنما يَدعُو إلى نَفْسه وليس يَدْعو إلى ربه، ففَتِّشْ نَفْسَك: هل فِيكَ سِرٌّ من هذا؟ إن كان فِيكَ سِرٌّ من هذا فأَصلِحِ الأَمْر، وإن كُنْت لا تَغضَبُ إلَّا للَّه تعالى، ولا تَرضَى إلَّا للَّه تعالى، فهذا هو الداعِيةُ حَقيقةً.

وقوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} الإِذْن هنا يَشمَل الإِذْن الكَوْنيَّ والإِذْنَ الشَّرعيَّ، فإن كان المُرادُ به ما يُدْعَى به فهو الشَّرْعيُّ، يَعنِي: إن كان المَعنَى: داعِيًا إلى اللَّه تعالى بأَمْره الذي أمَرَك بالدعوة إليه فالمُراد به الإِذْن الشَّرعيُّ، وإن كان المُرادُ داعِيًا إلى اللَّه تعالى بقَدَره يَعنِي: حيث قوَّاك على ذلك، وهيَّأَ لك الأسبابَ فهو إذنٌ كونيٌّ، والآيةُ تَشمَل هذا وهذا، فإن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما يَدعو بقَضاء اللَّه تعالى وقدَره، ويَدعُو كذلك بدِينه وشَرْعه فهو داعٍ بالأمرين جميعًا.

الوصف الخامس: قولُه تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} أي: مِثْله في الاهتِداء به سِراجًا، والسِّراج ما يُستَضاءُ به، ووَصَفْه بأنه {مُنِيرًا} إمَّا لبَيان الواقِع، لأن كل سِراج فله إِنارة؛ وإمَّا لِبَيان أن هذا السِّراجَ كان له إِضاءةٌ قوِيَّة فهو مُنيرٌ لما حَوْله، وهذا هو الأَقْرَب؛ لأن عندنا من القَواعِد المُقرَّرة أنه إذا دَار الأَمْر بين أن يَكون الكلام تَأْسيسًا أو تَوْكيدًا فالأصل أنه تَأْسيسٌ، لأن التأْسيس فيه زِيادةَ مَعنًى، بخِلاف التَّوْكيد، التَّوْكيد ليس فيه إلَّا التَّقْوية، لكِنَّ التَّأْسيس فيه زيادةُ مَعنًى، وعلى هذا

<<  <   >  >>