للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولا يَتضَرَّر بذلك؛ ولهذا يُوصَف اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالتَّأذِّي ولا يُوصَف بالضرَر، قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: ٥٧]، وقال تعالى في الحَديث القُدسيِّ: "يُؤْذِيني ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ" (١)، أمَّا في الضرَر فقال في الحديث القُدسيِّ: "يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْعَونِي" (٢)، ونحن نُشاهِد الآنَ في أنفُسِنا أننا نَتَأذَّى بالشيء ولا نَتَضَرَّر به، إذ يَتأذَّى الإنسان بالرائِحة الكرِيهة؛ كرائِحة البَصَل والكُرَّاث والنَّتْن والوَسَخ والعَرَق وما أَشبَه ذلك، ولكنه لا يَتَضرَّر به، فلا يَلزَم من الأذِيَّة الضرَرُ.

يَقول تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} الفاء عاطِفة على قوله تعالى: {يُؤْذِي}؛ يَعني: فكان أيضًا يَستَحْيِي منكم، أي: يَستَحْيِي منكم أن يُخرِجكم إذا دَخَلْتم في هذه الحالِ.

وقوله تعالى: {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} إذا قيل لنا: ما هو الحَياء؟ أو عَرِّف الحَياء؟ فنَقول: الحَياء نَكتُب عليه ميم بخَطٍّ عَريض، أي: معروف، ففي القاموس إذا جاءَت كلِمةٌ مَعروفةٌ كُتِب: ميم، يَعنِي: مَعروف، فلا يَحتاج إلى أن نَحُدَّه، كما لو قيل لك: ما هي المَحبَّة؟ فلا تَستَطيع أن تَحُدَّها، مثلما قال ابنُ القَيِّم رَحِمَهُ اللَّهُ في روضة المُحبِّين (٣): إن المَحبَّة لا تُحَدُّ بأَوْضَحَ من لَفْظها، المَحبَّة هي المَحبَّة. وكذلك: الكراهة هي الكراهة؛ لأن هذه انفِعالاتٌ نَفْسية يُحِسُّ بها الإنسان من نَفْسه، ولا يَستَطيع أن يُعبِّر عنها، فالحَياءُ هو الحَياءُ، وكذلك: النَّوْم هو النَّوْم مَعروف، وبعضهم يَقول: إنها غَشْية


(١) أخرجه البخاري: كتاب التفسير، باب {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}، رقم (٤٨٢٦)، ومسلم: كتاب الأدب، باب النهي عن سب الدهر، رقم (٢٢٤٦)، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.
(٢) أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، رقم (٢٥٧٧)، من حديث أبي ذر -رضي اللَّه عنه-.
(٣) انظر: طريق الهجرتين (ص: ٣١٠)، ومدارج السالكين (٣/ ١١).

<<  <   >  >>